?>

التوكل على الله والعمل بالأسباب

الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا  وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»  

إن التوكل على الله عز وجل غذاء من أغذية الروح، يقوي عزائمنا، ويرفع هممنا، وهو لا يتنافى مع الأخذ بالأسباب. إن جلب ما ينفع الإنسان، ودفع ما يضره، يقوم على التوكل على الله، واتخاذ الأسباب المشروعة لذلك، مع كمال الثقة بالنفس. للتوكل عاملان أساسيان: الأول الأخذ بالأسباب، والثاني الإفتقار إلى عون الله تعالى، وللتوكل دافعان: الأول عجزالإنسان وضعفه.  «وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا» النساء: 28. والدافع الثاني حاجة الإنسان إلى قوة الله وقدرته. قال الله تعالى على لسان الخليل عليه السلام: « الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ. وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ. وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ. وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ. وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ » الشعراء: 78-82. إن أساس عقيدة الإسلام مبنية على “أن لا فاعل إلا الله تعالى، وأن كل موجود من خلق ورزق وعطاء ومنع وموت إلى غير ذلك، فالمنفرد بإبداعه واختراعه هو الله عز وجل لا شريك له فيه”، وما سواه مسخرون لا استقلال لهم بتحريك ذرة من ملكوت السموات والأرض. «فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ» العنكبوت: 65. قيل معناه: أنهم قالوا لولا استواء الريح لما نجونا. فنسبوا سبب نجاتهم إلى الريح، وغفلوا عن أن الريح لا يتحرك ما لم يحركه محرك، والمحرك الأول لكل شيء هو الله عز وجل. قال الله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ» الأعراف: 57. كل من يتأمل في الكون ويطيل التأمل فيه يدرك أن العوالم اثنان: عالم الشهادة، وعالم الغيب. فعالم‌ الشهادة‌، هو عبارة عن عالم الظواهر المادية والمحسوسات. وهناك عالم آخر وراء هذه الظواهر التي ندركها بحواسنا، ألا وهو عالم الغيب، نحن نطلع على الظاهر، ولكن يمكننا أن ندرك ببصيرتنا عالم الغير المحسوس، وعالم الغيب هو عالم الملكوت المختصُّ بالأرواح والنفُّوس. تحجب الحياة عالم الملكوت عن الحواس، فإذا مات الإنسان ينكشف له الغطاء، فيرى الأرواح التي تسبح في عالم الملكوت. «لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» ق: 22.

الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما  بعد:

معشر الإخوة والأخوات:

قال الله تعالى لسيدنا موسى عليه السلام: «فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ 23 وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا ۖ إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ» الدخان. السير بالليل اختفاء عن أعين فرعون نوع من الأسباب الظاهرة التي أمر الله تعالى به سيدنا موسى عليه السلام لحماية قومه ضرر جنود فرعون. تنقسم الأسباب إلى ظاهرة وخفية، فمن المعلوم أن الأسباب مؤثرة في مسبَباتها، لكن من الذي يودع القوة المؤثرة في المسبَبات؟ الكل يعلم أن الشيء إذا ألقي في النار احترق. النار محرقة سبب ظاهر، ومعلوم لدى الخاصة والعامة، لأنه من عالم الشهادة، والذي أعطى للنار خاصية الإحراق، وقادر على أن يسلبها هذه الخاصية سبب خفية وهو من عالم الملكوت الذي لا تدكه حواس الإنسان. إلا أن المسلم يدرك من خلال القرآن الكريم أن محرك تأثير الأسباب أو عدم تأثيرها هو الله عز وجل. كما يخبرنا القرآن الكريم عن ذلك في قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام: «قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ 68 قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ 69» الأنبياء. لقد قسم الإمام الغزالي رحمه الله تعالى الأسباب إلى مقطوع بتأثيرها، ومظنون، وأخرى موهوم بتأثيرها. فمعالجة الجوع بالطعام، والعطش بالماء سبب مقطوع به يعرفه كافة الناس. وأما الأسباب المزيلة للمرض تنقسم إلى مظنونة وموهومة: إن التداوي عند أهل الإختصاص من الأطباء هي من الأسباب المظنونة بتأثيرها في الشفاء، وهي من الأسباب الظاهرة في الطب، وهي لا تنافي التوكل على الله عز وجل. فالسبب الظاهر في عملية الشفاء هو الدواء الذي وصفه الطبيب، وأما السبب الخفي فيها هو الله سبحانه وتعالى الذي جعل الدواء يؤثر في الداء. وفي هذا قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: «لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» مسلم.‏ فعملية التطبيب هي أيضا من قدر الله تعالى. «عَنْ أَبِي خُزَامَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَرَأَيْتَ رُقًى نَسْتَرْقِيهَا، وَدَوَاءً نَتَدَاوَى بِهِ، وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا، هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا؟ قَالَ: هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ» الترمذي. وأما العلاج بالأعشاب والرقية، وقد كثر من اقتحم نفسه دون دراسة علم الطب في معالجة ما عجز عنه الطب الحديث، وبما أن كثير من المعالجين بخلطاب الأعشاب والرقية غالوا في استعمالهم التداوي بها، وتجاوزوا حدود علم الطب، فهذا لا يعد إلا أن يكون من الأسباب الموهومة التي يتنافى الأخذ بها مع التوكل. مع أن الأخذ بالأسباب القطعية والظنية لا نتنافى في الإسلام مع مفهوم التوكل. إن الرقية ليست علاجا، وإنما هي قوة روحانية التي تقوينا روحيا وجسديا. إن الاعتماد على الأسباب وحدها خلل في الدين، وترك الأخذ بالأسباب خلل في العقل. قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: الاعتماد على الأسباب شرك في التوحيد، والتثاقل عنها بالكلية قدح في الشرع. إن التوكل على الله سبحانه وتعالى موسوم بمحبة الله تعالى، ومضمون بكفاية الله تعالى. «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ» الطلاق: 3.

مقالات ذات صله

تريد البقاء على اطلاع حول أحدث مقالاتي؟

اشترك هنا في النشرة الإخبارية الشهرية