الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد لله الذي هدانا لنعمة الإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله،«واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
قال الله تعالى في محكمه تنزيله: تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى ٱلأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ القصص:83. قال عكرمة رضي الله عنه: العلو هو التجبر. وقال ابن جريج الطبري رحمه الله تعالى: لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى ٱلأرْضِ أي لا يريدون تعظماً ولا تجبراً، وأكد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على خطورة الكبر والإستعلاء في الأرض، حيث قال: «لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» وقَالَ رَجُلٌ استفسارا: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً. فقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم مبينا لمعنى حقيقة الكبر: «إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ» مسلم. وبطر الحق: هو دفعه ورده على قائله، أما غمط الناس: فهو احتقارهم وازدراؤهم، والإسلام دين الجمال، والجمال لا يعترض مع الجمال. وعن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَىَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلاَ يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ» مسلم. ان التواضع خلق حميد، وهو من خلق الانبياء عليهم السلام، وخصال المتقين، وشيم الصالحين، والتواضع دليل على طهارة النفس، وهو من ثمار الايمان، والعمل الصالح. فالله سبحانه وتعالى خاطب وأمر عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه الصلاة والسلام بالتواضع، حيث قال تعالى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الشعراء: 215.
إن التواضع خصلة مرجوة ومحمودة، وهي أساس التعامل بين الناس، وإن التواضع يكتسب السلامة والأمن، ويخلق الألفة والتآلف، ويذهب الحقد والبغضاء، ، وثمرة التواضع المحبة، وإن تواضع الشريف يزيد في شرفه، كما أن تكبر الوضيع يزيد في وضعه. وعند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: « وَمَا زَادَ اَللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا, وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ» مسلم. وكان سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: « وجدنا الكرم في التقوى، والغنى في اليقين، والشرف في التواضع ». إن المتواضع يرفع الله سبحانه وتعالى منـزلته ومكانته وقدره في الدنيا والآخرة، فطوبى للمتواضعين. فيا اخي ويا أختي كن كالسنبلة المليئة بالقمح تنحني تواضعا، ولا تكن كالفارغة التي تتعالى وهي جوفاء ، وكن كالماء ينساب تواضعا وفيه كل الخير والحياة. وتواضع لربك لأن التواضع مظهر لعبودية الإنسان لله تعالى، واعبده حق عبادته. تواضع لوالديك ومع خلق الله. إن التواضع ليس ضعفا في الشخصية، وليس ضعفا في النفس، وانما التواضع هي دلالة على الحكمة ووهو من صفات عباد الله تعالى، قال تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاما الفرقان: 63.
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا
فكم تحتها قوم هم مــنك أرفـع
فإن كنت في عز وخــير ومنعة
فكم مات من قوم هم منك امــــــــنع
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
معشر الإخوة والأخوات:
ان التواضع سلوك اخلاقي يقتضي التعامل مع الناس باللين والرحمة، كما وصف الله سبحانه وتعالى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَال عمران: 159 . وفي تاريخنا الإسلام نقرأ أن المرزبان (رسول كسرى) قَدِم الى المدينة يريد مقابلة امير المؤمنين عمر رضي الله عنه، فأخذ يبحث عن قصر الخلافة وهو في شوق الي رؤية ذلك الرجل الذي اهتزت خوفا منه عروش كسرى وقيصر. بعد عناء لم يجد رسول كسرى في المدينه قصرا ولا حراسا يحرسون امير المؤمنين عمر رضي الله عنه، فسأل الناس : أين أمير المؤمنين عمر؟ فقالو لاندري ولكنه لعله ذاك النائم تحت الشجرة. فلم يصدق الرجل ماسمع فذهب اليه فإذا به عمر رضي الله عنه قد افترش الأرض، والتحف السماء، وعليه بردته القديمة، فوقف المرزبان مدهوشا مستغربا، وقال قولته المشهوره : حَكَمت، فعَدلت، فأمِنت، فنِمت ياعمر. وملكنا فظلمنا فخفنا فسهرنا فانتصرتم علينا.