الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
مع دوران الليل والنهار يتقدم بنا العمر يوما بعد يوم، لا ندري ما يستجد لنا من أحوال، وما تصادفنا من مفاجآت في الحياة. فقد تسعدنا تقلبات الحياة يوما، وتحزننا يوما آخر. وربنا سبحانه وتعالى يقول: « وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ» آل عمران: 140. لقد جعل الله تعالى في تقلب أحوالنا آية لعلنا نعتبر أو نتذكر، فلا شيء يدوم في الحياة، لا القوة ولا الضعف، لا الصحة ولا المرض، لا الغنى ولا الفقر. حيث تمضي حياتنا في تقلبات، أوقات من القلق والحزن كالليالي المظلمة، وأوقات من الفرح وراحة البال كالنهار في صفائه وإشراقه. قال الله تعالى: « وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا» الفرقان: 62. نمر في حياتنا اليومية بالعديد من التجارب، تتخللها أحزان وأفراح. ياترى فما هو حالنا مع تقلبات الحياة؟ ترانا نسخط أم نرضى لما تكتشفه لنا الأقدار. كيف نتجاوز صدمات التي تصادفنا في حياتنا؟ كيف نصبح أكثر ثقة في الله عز وجل، وفي قدرتنا على التعامل مع الصعاب التي تواجهنا في الحياة؟ كيف نستطيع أن نظل متفائلين وواثقين بمستقبل مليئ بالرضا؟ ونكون من الذين قال الله فيهم: «فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ» آل عمران:174. إننا لا نستطيع أن نمنع الحزن يحول بنا، ولكن نستطيع بعون الله تعالى وقوته أن نتعلم كيف نتعامل معه. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوا بقوله: «اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء» (أخرجه الطبراني . يحقق الرضا بالقدر السلام الداخلي، وهو من اسمى المشاعر، وأعظمها راحة للنفس. تظهر ثمرة السلام الداخلي حين يكون المرأ في موقف محفوف بالتوتر و لكن قلبه مطمئن إلى رحمة الله تعالى، وراضي بقدر الله تعالى. وقد عُرف القدر بأنه وقوع الأشياء مطابقة لعلم الله تعالى. فالقدر لا علاقة له باختيار الإنسان ولابجبره. لقد شاء الله تعالى أن يملك للإنسان قدرة وإرادة تخوله القيام بشؤونه الخاصة والعامة. يجعل الرضا بالقدر الإنسان متفائلا بالخير، ينظر إلى الدنيا بعين الحب لا بعين السخط. فما أسعد من جعل الرضا يغمر إحساسه، فيكون بذلك مستريح القلب، ومنشرح الصدر. ولقد أحسن الإمام الشافعي رحمه االله حين قال:
دعِ الأيامَ تفعلُ ما تشـــــــــــــاءُ … وطب نفساً إذا حكمَ القضــاءُ
ولا تجزعْ لحادثةِ الليــــــــــالي … فما لحوادثِ الدنيا بقـــــــــــاءُ
وكن رجلاً على الأهوال جلـداً … وشيمتكَ السماحةُ والوفـــــــاءُ
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
معشر الإخوة والأخوات:
إن الإيمان بالله تعالى واتباع منهج القرآن الكريم هو السبيل للتخلص من القلق، وبث في النفس السكينة والطمأنينة. « هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ » الفتح: 4. فالمرض والصحة والتدواي كلها من قدر الله تعالى، فلو أن امرءا مرض ولم يتعالج فذلك من قدر الله، وإذا شفي فالشفاء كذلك من قدر الله تعالى. في هذا السياق روى الإمام البخاري أن سيدنا عمر رضي الله عنه خرج إلى الشام، فلقيه أمراء الجنود في الطريق، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام. بعد مشورة مع أصحابه قرر سيدنا عمر بأن يرجع ومن معه من المسلمين ولا يدخل بهم الأرض التي بها الوباء. فقال له عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: « أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ! فَقَالَ عُمَرُ: نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ» البخاري. لقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نتعامل مع مجريات القدر بالرضا. وروي الإمام الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ, مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْط». يبين النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أن الرضى يسدي على القلب السكينة، ويبعد عنه القلق والغم، كما أن السخط يجعل الإنسان مهموما مغموما. فكثير من يتجاوب مع تداعيات الحياة بالرفض والإنكار. من خلال قصة سيدنا موسى عليه السلام مع فعل الخضر عليه السلام حينما خرق السفينة، وسبب في عرقها يعلمنا القرآن الكريم المعنى الخفي وراء مجريات الحياة. لقد انزعج موسى عليه السلام وأهل السفينة من فعل الخضر عليه السلام. لما شعروا بخطر فعله أنكروا عليه كما قد ينكر أحدنا إذا لَم به شيء يكرهه. يصور لنا القرآن الكريم هول الموقف في احتجاج سيدنا موسى عليه السلام بقوله: « قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا» الكهف: 71. هكذا طبيعة الإنسان ينزعج، ويهلع كلما ألم به مكروه، ويفرح كلما ألمت به نعمة. لما كشف الخضر لموسى عليه السلام ما خفي عليه من مصالح فعله، اطمئن قلبه واستراح لفعل الخضر عليه السلام. وهذه القصة تصور لنا الحياة اليومية لكل إنسان.