إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}
أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد – صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعةٍ، وكل بدعةٍ ضلالةٍ، وكل ضلالةٍ في النار.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله،«واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
إِن كرامة الإِنسانِ رفيعة، وحقوقه محفوظة، وقَد حظي الإنسان من اللهِ تعالى كامل التكريم والتقدير. قال الله تَعالَى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً الاسراء: 70. ومن مظاهر هذا التكريم أَنه منحه عقلا سليما يزن بِه أُمور حياته، ويضبط به تصرفاته؛ ليضمن لنفسه حياة كريمة، ويُؤسس لأمته مستقبلا مشرقاً، إِن الإِنسان الرشيد ذا الفكرالسديد، أولا: يعرف مسؤليته نحو نفسه، فَيحفظها من كل انحراف، ويعصمها بِمكارم الأَخلاَقِ، ومحاسنِ الأَوصاف، ليجد سلوكه قبولا حسنا لدى الناس، وأجرا عظيما في أخراه لدى رب العالمين. قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً ال عمران: 30. ثانيا: كما يشعر بمسؤليته نحو نفسه، يشعر أيضا بمسؤوليته نحو مجتمعه، فََيعمل جاهدا علَى نشر الخير فيه، وطهارته من الفساد والأخلاق الذميمة، وينشر فيه العدل والأمان حتى ينعم بطيبات الله، ويؤدي حق الله الذي عليه. ثالثا: ويعرف واجبه نحو خالقه، فَلاَ يقترب ما حرم الله تعالى، ولاَ يغفل عما أَمر به، وحث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه القيم والمبادئ، وبها يسعد الإنسان في دنياه وأخراه، فتصلح أموه، وتستقيم حياته، ويرضى عنه رب العالمين. قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ الأنفال 24 . الإستجابة لنداء الرحمن تجعل الإنسان يتعامل مع واقعه بحكمة وروية، ويتصرف معه من كونه انسان مزيج ومكون من جسد وروح وعقل، فليعطي لكل واحد منهم حقه، فلا يطغى متطلبات كل واحد منهما على الآخر. فللجسد متطلبات مادية، وللروح متطلبات روحانية، وللعقل متطلبات معرفية، فمن تعامل مع هذه المكونات الثلاثة بميزان العدل وأعطى لكل واحد منهم حقه، كسب توازنا في أفكاره وسلوكه. إن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بالعدل والإنصاف في كل شيئ حتى في الطعام، حيث قال صلى الله عليه وسلم: « كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا مَا لَمْ يُخَالِطْهُ إِسْرَافٌ أَوْ مَخِيلَةٌ» ابن ماجه. نهانا عن الإسراف وعن الأكل حتى التخمة فإنها أصل الداء . « مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ حَسْبُ الآدَمِيِّ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ غَلَبَتِ الآدَمِيَّ نَفْسُهُ فَثُلُثٌ لِلطَّعَامِ وَثُلُثٌ لِلشَّرَابِ وَثُلُثٌ لِلنَّفَسِ » الترمذي
إِن التعامل مع الواقعِ لا يعني قبوله والرِّضا به على الإطلاق، ولا يعني أيضا رفضه ومحاربته على الإطلاق، بل يعني التعامل معه بحكمة وبصيرة، نقبل حسنه، ونرد قبيحه، نأخذ منه ما ينفع أمتنا، ونترك ما يضرها، نحن أمة تملك تراثا قويما، ودينا شاملا فيه من المبادئ العليا، والقيم المثلى ما يعصمنا من الضياع، والإنصياغ لكل داع إلى الإنحراف عن القيم الإنسانية التي سطرها الله في الكتب، وأرسل من أجلها الرسل. فديننا الحنيف يعلمنا أن ننظر إلى الواقع بنظرة الوسطية التي وصف الله تعالى بها المسلمين. قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاًالبقرة: 142. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، والقدوة الصالحة، فلقد وجد في مكة والمدينة واقعا يسيطر عليه الشرك وتحكمه الخرافة، ويسود فيه الظلم والضلال، وفيه أيضا من الخير و الفضل. فعمل صلى الله عليه وسلم على تغيير الأحوال الفاسدة، وتقرير الأحوال الصالحة. قال الله تعالى: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ المائدة: 16. فظل سيدنا رسول الله الله عليه وسلم يدعو الناس بالحكمة والموعظة الحسنة مخاطبا عقولهم قبل عواطفهم، متبعا منهج القرآن الكريم. قال الله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إبراهيم: 24. إن التعامل مع واقعنا بطريقة إيجابية، وأسلوب حسن يمنحنا قوة لتغييره. إن التغيير سنة من سنن الكونية، فالرضا بالواقع الفاسد أمر يتنافى مع سنن الحياة التي وضعها الخالق سبحانه وتعالى، فالسعي لتغيير الواقع السيء أمر مطلوب شرعا وعقلا. قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ الرعد: .11
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
إِن أَصحاب العقول الراشدة، والنفوس الزكية، يعملون بجد وإِيجابية، لإصلاح واقعهم وتحسين ظروفهم الإجتماعية من خلال اعادة بناء عقولهم ونفوسهم وسلوكهم على منهج الله تعالى، لكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن، كيف نستطيع تغيير واقعنا؟ إن واقع الناس ليس أمرا جبريا، ولا قدرا مقدورا مستحيلا تغييره، نلحظ باستقراء تاريخ أمتنا الإسلامية، كيف كان المسلمين قبل الإسلام، وكيف تغير وتبدل حالهم بعد إسلامهم، وعملوا على صياغة أفكارهم وسلوك حياتهم من جديد. إن قوة الإرادة لديهم وتجاوبهم مع القرآن الكريم جعلهم يعملون بدأب لإصلاح أنفسهم، ونشر الخير في المجتمع، ومكافحة الفساد والخرافة، ورفع الظلم عن الناس. إن الإستسلام للواقع ضعف وهوان، يرفضه المبدأ الإنساني، ولا يقبله الشرع الحكيم. فاعمل أيها المسلم وأيتها المسلمة على تغيير الواقع السلبي إلى الواقع الصالح المقبول. وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ التوبة: 105. يذكر الله عز وجل في القرآن الكريم قصة ذي القرنين مثالا لنا حتى نقتدي بقوة إرادته وعزيمته. قال الله تعالى: قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً 94 قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً 95 آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً 96 فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً 97 قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً 98الكهف. إن القبول بالواقع دون المساهمة في إصلاحه من خلال الدعوة بالحكمة يعد من التصرفات السلبية التي تقتل الطموح في النفس، وتجعله انسانا فاشلا في دنياه وأخراه. لا يحظى بالنجاح من لا يملك الطموح، فكن أيها المسلم طموحا إلى الخير، فهو يدفعك دفعا إلى العمل الدؤوب، ويحيي فيك روح المبادرة والعزيمة. وقد أحسن من قال: « إن لم يكن الشغل محمدة فإن الفراغ مفسدة، ولا تفرغ قلبك من فكر، ولا ولدك من تأديب، فإن القلب الفارغ يبحث عن السوء، واليد الفارغة تنازع إلى الآثام ».
المراجع:
سنن الترمذي للإمام محمد بن عيسى الترمذي
سنن ابن ماجه للإمام محمد بن يزيد ابن ماجه
المقاصد الحسنة فيما اشتهر على الألسنة للمؤلف محمد بن عبد الرحمان السخاوي