الحمد لله الذي تواضع كل شيء لعظمته، و استسلم كل شيء لقدرته، واشهد ان لا اله الا الله وحده لاشريك له، بيده الملك، وهو على كل شيء قدير، واشهد ان محمدا عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، بلغ الرسالة، وادى الامانة، ونصح الامة، وكشف الغمة، وتركنا على المحجة البيضاء، صلى الله عليه وسلم وعلى اله الطاهرين، وصحبه الطيبين، ومن تبعهم باحسان الى يوم الدين.
بعث الله سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، ومثالا للبشرية جميعا في علاقته مع خالقه، وعلاقته بالناس كلهم بمختلف أجناسهم وألوانهم وأديانهم. كان صلى الله عليه وسلم سهل الخلق، كريم الشمائل، محمود السلوك. اجتمعت في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم محاسن الأخلاق، وتمتعت نفسيته صلى الله عليه وسلم بالتوازن والإعتدال، وباليسر والتيسير. تخبرنا أمنا عائشة رضي الله عنها عن سلوك النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: «مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَيْسَرُ مِنَ الآخَرِ إِلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ» مسلم. ولم يكن صلى الله عليه وسلم بالعبوس الذي يفر منه الناس، ولا بالهازل الذي يسقط مهابته. قال ابن القيم رحمه الله في وصف عواطف النبي صلى الله عليه وسلم: وكان بكاؤه تارة رحمة للميت، وتارة خوفا على أمته وشفقة عليها، وتارة من خشية الله، وتارة عند سماع القرآن، قال عَبْد اللَّهِ بْنِ مَسْعُود: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اقْرَأْ عَلَىَّ. قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ قَالَ ” نَعَمْ ”. فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الآيَةِ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًاالنساء: 41. قَالَ ” حَسْبُكَ الآنَ ”. فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ» البخاري. ولما مات ابنه إبراهيم دمعت عيناه وبكى رحمة له. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ـ رضى الله عنه ـ قَالَ دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَذْرِفَانِ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ـ رضى الله عنه ـ وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ ” يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ ”. ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ صلى الله عليه وسلم ” إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ ” البخاري. وكان صلى الله عليه وسلم يضحك مما يضحك منه أصحابه. هذا التوازن في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم جعلت منه الأب الرحيم، والزوج العطوف، والقائد الأمين، والقاضي العادل، والمستشار الناصح، والمفتي الحكيم، والمعلم الصادق، والعابد المخلص، والزاهد الورع. وكان صلى الله عليه وسلم يدعوا الى الإسلام بالحجة الدامغة والبينة الواضحة، وبالأسلوب الذي يؤثر في النفوس، ويؤلف به القلوب. فأوحى الله إليه أن العقيدة الإسلامية قائمة على أساس الإقناع والإختيار، لا على أساس القوة والإكراه، ولا على أساس مشيئة القهر والإلجاء. قال تعالى: وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَيونس: 99
لقد أسس سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مبادئ لصون الحريات الخاصة منها والعامة، وشرع أحكاما وقواعد لحفظ كرامة الإنسان، فأنزل الله آيات من الذكر الحكيم تؤكد على حفظ حياة الإنسان، وحفظ ماله وعقله، وحفظ عرضه ونسله، وحفظ حريته وسمعته. رفع الله مكانة الإنسان، وكرمه في ذاته، حيث قال الله تعالى في محكم التنزيل:وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً الإسراء: 70. لم تكتف الرسالة المحمدية اعطاء الحرية للناس البقاء على دينهم أو الدخول في دين الإسلام، بل سمح لهم بإقامة شعائرهم الدينية، وتنظيم حياتهم الإجتماعية وفق أعرافهم.وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ الكهف: 29. ونهى عن التعرض للكنائس و الصوامع، لا بالهدم ولا بالإستيلاء. واعتبر القرآن الكريم الإعتداء على كرامة الإنسان جريمة في حق الإنسانية، بغض النظر عن جنسه ولونه ودينه. قال تعالى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ المائدة:32). فالناس جميعا متساوون في حق الحياة، وحق الأمن، وحق السلام، فالمسلم وغير المسلم، الرجل والمرأة سواسية في حق الحرية الدينية والسياسية والأمان الإجتماعي. لقد رفعت الرسالة المحمدية من شأن كرامة الإنسان حيا وميتا. لقد أبرز سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المعاني الإنسانية في تعاملاته وسلوكياته. بذلك علم النبي صلى الله عليه وسلم صحابته والمسلمين من بعدهم احترام الإنسان حيا وميا. روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: « إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا لَهَا حَتَّى تُخَلِّفَكُمْ أَوْ تُوضَعَ». فقد يُفهم من هذا الحديث أن الوقوف الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم خاص بجنازة المسلم وليس عاما لجميع الجنائز. ولإزالة إشكال هذا الخصوص الذي قد يُفهم من هذا الحديث.، أذكر حديثا آخر أولا يزيل هذا الإشكال (اشكال الخصوص) وثانيا أنه يفيد أن الوقوف الذي جاء في الحديث المذكورعاما لكل جنازة مرت أمامنا. فعن قَيْس بْن سَعْدٍ، وَسَهْل بْن حُنَيْفٍ، كَانَا بِالْقَادِسِيَّةِ فَمَرَّتْ بِهِمَا جَنَازَةٌ فَقَامَا فَقِيلَ لَهُمَا إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ . فَقَالاَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّتْ بِهِ جَنَازَةٌ فَقَامَ فَقِيلَ إِنَّهُ يَهُودِيٌّ . فَقَالَ: « أَلَيْسَتْ نَفْسًا» مسلم. وكان صلى الله عليه وسلم يعود المرضى من المسلمين ومن غير المسلمين. « عن أَنسٍ أَنَّ غُلاَمًا، مِنَ الْيَهُودِ كَانَ مَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: أَسْلِمْ. فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ، فَأَسْلَمَ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ بِي مِنَ النَّارِ» أبو داود.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
معشر الإخوة والأخوات:
إن تعايش الناس فيما بينهم أمر ضروري تقتضيه دواعي الحياة، وتستلزمه ضرورية الوجود، ومن أجل ذلك كان أول ما قام به النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بالتآخي بين المهاجرين والأنصار. الإخاء الذي تذوب فيه عصبية الجنس، وعصبية اللون، وعصبية البلد. لقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعميق معاني الحب والتضامن في المجتمع المدني. قال صلى الله عليه وسلم وهو يحث الحب: « إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلاَلِي الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلِّي » مسلم. إن هذا الحب الذي أسس عليه النبي المجتمع المدني ساهم إلى حد كبير في إزالة وحشة الغربة للمهاجرين، وفي مؤانستهم عن مفارقة بلدهم. وكانت شخصية النبي صلى الله عليه وسلم تتميز بالعدل والأمانة بين الناس جميعا، وأمر القرآن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحكم بالعدل بين الناس مسلمهم وغير المسلم منهم. قال الله تعالى وهو يتحدث عن بعض يهود المدينة:فَإِن جَآؤُوكَ (أي اليهود) فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ المائدة:42. ووصف القرآن الكريم النبي صلى الله عليه وسلم بأوصاف كثيرة منها الرحمة. وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَالأنبياء: 107. وحث صلى الله عليه وسلم على العطف على الناس جميعا بدون استثناء ورحمتهم، حيث نفى رحمة الله عن كل من لا يرحم الناس. قال صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لاَ يَرْحَمُ النَّاسَ» البخاري. يؤكد صلى الله عليه وسلم بتصرفاته وأقواله أن الدين الذي جاء به أي دين الإسلام، دين السماحة والرحمة، يسع الناس كلهم، ويغمرهم باللأمن والسلام. وكان صلى الله عليه وسلم يتعايش مع من حوله من المسحيين و اليهود بكل سلام وأمن، وعقد معهم معاهدة من شأنها تؤمن للجميع حرية الإعتقاد والحياة. فكتب النبي صلى الله عليه وسلم في وثيقة معاهدته لنصارى نجران: «وَلِنَجْرَانَ وَحَاشِيَتِهَا جِوَارُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَذِمَّةُ مُحَمَّدٍ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ، وَمَالِهِمْ ، وَأَرْضِهِمْ ، وَأَمْوَالِهِمْ ، وَغَائِبِهِمْ ، وَشَاهِدِهِمْ ، وَتَابِعِهِمْ ، ولا يُغَيَّرُ مَا كَانُوا عَلَيْه ، وَلا يُغَيَّرُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِهِمْ ، وَلا مِلَّةٌ مِنْ مِلَلِهِمْ ، وَلا يُغَيَّرُ أُسْقُفُّ عَنْ أُسْقُفُيَّتِهِ ، وَلا رَاهِبٌ عَنْ رَهْبَانِيَّتِهِ ، وَعَلَى مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ»الطبقات الكبرى لإبن سعد. وفي ميثاق المدينة كتب صلى الله عليه وسلم: « لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم ». هذه هي شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، فلنقلده في تواضعه و إنصافه، وفي عفوه ورحمته، وفي لطفه ورقته، وفي إخلاصه واتصاله بالله. قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراًالأحزاب:21
المراجع:
صحيح البخاري، للإمام محمد بن إسماعيل البخاري. صحيح الإمام مسلم، أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم. سنن أبي داود، للإمام سليمان بن الأشعث بن اسحاق السجستاني.التوازن النفسي في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، د/ خالد سعد النجار
سماحة النبي صلى الله عليه وسلم في معاملة غير المسلمين، د. عبدالله اللحيدان.
دعائم دولة الإسلام في المدينة نبيه، زكريا عبد ربه.