الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
يؤثر كل فعل في نفس الإنسانية إيجابا أو سلبا، بحيث يجذب الفعل النفس نحو الخير أو الشر تدريجيا، فبالتكرار يتكرس الفعل في نفس الإنسانية، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. إن تكرار الشيئ هو لغة العقل الباطن. يتمسك العقل الباطن خصوصا بالفعل العاطفي بقوة. لذا فإن الإهتمام بالبعد الأخلاقي لدى الإنسان مسألة أساسية، ويعد الركيزة الهامة التي يُبنى عليها المجتمع. لقد أحسن من قال:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.
إن البعد الأخلاقي هو أساس لكل صلاح، وعلاج لكل أنواع الفساد. إن الأخلاق هي القوة الخفية التي تنظم الحياة الروحية والمادية للفرد والمجتمع. لا تكتمل شخصية الإنسان بالمعرفة فقط، بل لابد له أن يعرف غاية وجوده، ودوره في الحياة. إن الإنسان مسؤول أمام ربه، ومسؤول أمام مجتمعه، محاسب على كل صغيرة وكبيرة، مراقب في السر والعلانية، «مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد» ق:18. يسجل كل سلوكه في كتاب يتلقاه يوم يلقى الله تعالى. « وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا» الكهف: 49. يتبين لكل دارس للقرآن الكريم أن إحدى الأهداف المهمة، لبعثت الأنبياء عليهم السلام هو تزكية النفوس، وغرس القيم الأخلاقية في الوجدان. إذا تأملنا في قول الله تعالى: «وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» فصلت: 34. نجد أن هذه الآية الكريمة تعلمنا طريقة مؤثرة في التعامل مع الخصم. كما تُبين لنا أيضا أهمية سعة الصدر في التعامل مع التحدي ، وحكمة العقل في التعاطي مع الحدث، والمرونة في حالة الخلاف. إن إحدى المشاكل الكبيرة في مجتمعاتنا هي تراكم الأحقاد بين المطلقين، وتراكم الأحقاد بين الإخوة، وتراكم الأحقاد بين الجيران، وتراكم الأحقاد بين الأسر، وتراكم الأحقاد بين المجتمعات. لقد قدم لنا القرآن الكريم وصفة علاجية للأحقاد المنتشرة في مجتمعاتنا وهي أن نعامل المنازع بالعفو والسماح، ولا نعامله بالإنتقام والحقد. حينئذ نعيش بسلام مع الآخرين، ويصبح العدو من أقرب الأصدقاء. يجعلنا هذا السلوك نريح بالنا من هم العداواة، ونمنح أنفسنا مزايا نفسية جيدة لكل من صحتنا العقلية والجسدية. «وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ، وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ، وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً، وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ، أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ» الرعد: 22. لقد أنشد الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
لَمّا عَفَوتُ وَلَم أَحقِد عَلى أَحَدٍ أَرَحتُ نَفسي مِن هَمِّ العَداواتِ.
إن كتاب ربنا سبحانه وتعالى نور لمن استضاء به، وبرهان لمن استدل به، وحكمة لمن نطق به، وعصمة لمن اعتصم به. إن أهم ما يهم الإنسان هو مستقبله ومصيره. إن أفعال الإنسان هي التي تصنع له مستقبله، وتحدد مصيره النهائي من سعادة أو شقاء. يربط نجاح الإنسان في حياته بقيمه الأخلاقية. قيم تعزز روابطه الإجتماعية، وتعصمه من الإنزلاق في هاوية الرذائل. قال الله تعالى: « قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» المائدة: 15-16.