لقد اختص الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بجوامع الكلم، يركب صلى الله عليه وسلم تعبيره بكلمات بليغة، جامعة لمعاني كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ، وَثَلَاثٌ مُنَجِّيَاتٍ، فَأَمَّا الْمُهْلِكَاتُ: فَشُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ، وَأَمَّا الْمُنَجِّيَاتُ: فَالْعَدْلُ فِي الرِّضَى وَالْغَضَبِ، وَالْقَصْدُ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَخَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ » الجامع الصغير. يخبرنا صلى الله عليه وسلم أن اتباع الشحِّ يؤدي إلى الهلاك، وهو أشد خطرا على نفس الإنسان، والأسرة والمجتمع. فالبخل نوعان مادي وعاطفي. يترتب على البخل المادي آثار اجتماعية ونفسية، فمنها معاناة الأسرة من نقص الإحتياجات الأساسية للحياة. إن تهاون رب الإسرة بالوفاء بمتطلبات الأسرة المادية تفقد الأسرة إحترامه والثقة به، كما يفقد الأبناء الثقة بأنفسهم، والشعوربالدونية أمام غيرهم من الأطفال، وهذا قد يؤدي بالأسرة إلى التفكك والضياع. إن البخل على الأسرة يربي في الأولاد الدناءة, ويوطئ في النفس عدم العزة. إن الدناءة تؤدي بالأبناء إلى الإنحراف، وفعل الرذائل، وهي مفتاح للكذب والخداع، وتعلم فنون السرقة والإجرام، والنصب والإختلاس، ومن دنا طبعه ذل لغيره، وفعل كل شر وبلية. إن اظهار النعمة على النفس والأسرة تربي في النفس العزة والكرامة، وهي نوع من الشكر لله تعالى. قال الله تعالى: «وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ » الضحى: 11. إن إظهار النعمة على الأسرة موجب لتحبيب الأبناء لأبويهم، فإن القلوب مجبولة على محبة المحسن إليها. يبين النبي صلى الله عليه وسلم كيفية إظهار النعمة. قال عليه الصلاة والسلام: «كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ مَخِيلَةٍ، وَلاَ سَرَفٍ. إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُرَى نِعْمَتُهُ عَلَى عَبْدِهِ» أحمد. إن البخل مرض خطير وداء مؤلم، لن يجني البخيل من ورائه خيراً لا في الدنيا ولا في الآخرة. لذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم المسلمين الإستعاذة من خصلة البخل وغيرها، مثل دعائه عليه الصلاة والسلام: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ، وَقَهْرِ الرِّجَالِ» أبو داود.
يقوم نظام الأسرة على أساس من الحب الذي يسعد الأسرة، ويقوي ترابطها من الناحية النفسية، والاجتماعية، بحيث ينعم كل فرد في ظلالها بالحنان والكرامة والاستقرار. لقد أمرنا الإسلام ببناء أسرة صالحة، وبرعاية الأبناء فيها رعاية كاملة، وجعل هذه الرعاية تقوم على أسس سليمة، تتفق مع ضرورات الحياة، وتلبي لكل فرد فيها حاجاته الإنسانية. يقول الله تعالى: «وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا» الفرقان: 74. إن حرمان الأبناء من مصروف الجيب يفتح أمامهم أبوابا واسعة للإنحراف الأخلاقي، فالطفل يتأثر بسهولة بالبيئة المحيطة به، وينجر ببساطة وراء من يوفر له بعض حاجاته المادية. يحثّنا الشّرع الحنيف على التّوازن والوسطيَّة في المعيشة، من دون إسراف أو تقتير. قال تعالى: «وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً» الإسراء: 29. وسلوك البخل ينبع من سوء تفكير عند الإنسان حول كيفية التعامل مع المال. فالله عز وجل يقول: « فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» التغابن: 16. إن الإنفاق يؤدي إلى الفلاح، والشجع يؤدي إلى انتشار المشاكل الإجتماعية، لذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم منه، وأخبر بآثاره السيئة على سلوك الإنسان بقوله: «إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالشُّحِّ، أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخَلُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا» أبو داود. للجشع إنعكاسات و آثار سلبية على المجتمع ، فهو سببا في الأنانية، وتمزيق الأسر، وتفريق بين الإخوة والأحباب. قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: «وَالْبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ، بَعِيدٌ مِنَ الْجَنَّةِ، بَعِيدٌ مِنَ النَّاسِ، قَرِيبٌ مِنَ النَّارِ، وَلَجَاهِلٌ سَخِيٌّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ عَابِدٍ بَخِيلٍ» الترميذي. إن البخل لا يقتصر على العطاء المادي فحسب بل يمتد إلى العطاء العاطفي. وتؤثر شخصية البخيل بالسلب على الأسرة، وقد يصاب هؤلاء بالعديد من الأمراض النفسية، والجسدية. إن احتضان الوالدين لأولادهم شحنٌ عاطفيّ لا يستغنون عنه الأبناء كما لا يستغنون عن غذائهم وشرابهم. قالت عائشة رضي الله عنها: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ، فَمَا نُقَبِّلُهُمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ» البخاري. إن جفاء الوالدين العاطفي يساهم في ضعف ثقة الأبناء بأنفسهم، وبمحيطهم، وإن البخل العاطفي بين الزوجين من أشد أسباب المشاكل التي تعاني منها كثير من الأسرة المسلمة، والبخل العاطفي مسؤولية مزدوجة بين الطرفين. إن العاطفة هي أحاسيس باطنية، تقويها تعبيرات خارجية، مثل اللمس والمداعبة لما فيه من طاقة فسيولوجية، اللعب لما فيه من التفاعل والضحك، اللغة لما فيها من كلمات الحب والملاطفة، والهدية لما فيها من التقدير والشكر