?>

الاختلاف مصدر للإثراء الفكري

الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا  وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»

إن المتأمل في الكون الواسع ليرى فيه من التنوع ما يجعل للكون جماله، ومن الإختلاف ما يرسخ فيه انسجامه، وذلك الإختلاف والتنوع برهان على تدبير الحكيم العليم. إن الإختلاف والتنوع سنة ربانية في البشر والحيوان والنبات. قال الله تعالى: «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ» الروم: 22. وقال تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ» فاطر: 27-28. إن الله تعالى خلق الناس متفاوتين في طباعهم وأفكارهم وأشكالهم. فالإختلاف أمر ضروري نظرا لطبيعة اللغة، وطبيعة الثقافة، وطبيعة البيئة، وطبيعة الدين. إن الإختلاف غذاء للعقل، ومصدر لإثراء الفكر. قال الله تعالى: «يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا» الحجرات: 13. كل إنسان له شخصيته المستقلة، وتفكيره المتميز عن غيره، وطبعه المتفرد به. إن قناعات الإنسان خاضعة للبيئة التي نشأ فيها، والظرف التاريخ الذي ولد فيه. إن نفسية الشخص التي تربى عليها، كثيرا ما تؤثر على طبيعة تعامله مع القضايا المختلف فيها. إن الناس مختلفون في أفكارهم وسلوكهم، فمنهم من يميل إلى التشدد والتعصب لمذهبه وعرقه وتقافته، ومنهم من يميل إلى الإعتدال واحترام الآخر. فالواقع يفرض علينا فتح قنوات التواصل والحوار بين الطرفين حتى يتمكن كل واحد منهم من وصف مشاعره بشكل مباشر، والتعبير عن أفكاره بوضوح وإيجاز.

معشر الإخوة والأخوات:

إن الإختلاف بين الناس ليس محصورا في اللون والجنس والثقافة، بل يتعدى إلى اختلاف طبيعة النفس، وطبيعة تنوع مشاعرها وعواطفها. كما أن الناس يختلفون في المواهب والتوجهات، يختلفون ويتفاوتون أيضا في الأفكار والقدرات. فالإختلاف سنة كونية اقتضها حكمة الله تعالى، واستوجبتها قوانين الحياة. «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ» هود: 118-119. ينبغي أن ننظر إلى اختلاف الناس بعين التنوع والتكامل، لا بعين التصادم والتنازع. إن اختلاف الديني أو الثقافي أو العرقي لا يسوغ ظلم الآخر أو التضييق عليه، ولا ينبغي أن يكون إختلاف الدين سببا من أسباب الصراع أو النزاع. إن القرآن الكريم حفظ لكل إنسان حرية الإعتقاد، وكرامة الحياة. قال الله تعالى: « لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» البقرة: 256. قال الله تعالى: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ» الإسراء: 70. فالله وحده هو الذي يحاسب الناس على معتقداتهم، ولا غيره. إن القرآن الكريم يدعو المسلم أن يكون منصفا عادلا مع من يتفق معه في العقيدة وفي الفكر، ومع من يختلف معه، فلا يؤدي به اختلافه مع شخص الزيغ عن معاملته بالحسنى، ولا اتفاقه معه الخوض معه في الباطل، قال الله تعالى: «وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ» المائدة: 8. لا يمنع اختلاف العقدي ولا الثقافي من تقديم اليد المساعدة لكل ذي حاجة.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما  بعد:

معشر الإخوة والأخوات:

يجب أن نتعامل في مجتمعنا بعين التعاون، فلنتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا البعض فيما اختلفنا فيه. تفرض علينا الحياة المعاصر أن نتعلم كيف نتعامل مع المتفق عليه والمختلف فيه. إن التسامح مبدأ أصيل في ترسيخ ثقافة التعاون في المجتمعات الإنسانية. يُعدّ التّعاون من القيم الإنسانيّة العظيمة، ومن مبادئ دين الإسلام، الذي يمكن أبناء المجتمع على التواصل فيما بينهم، وتحسين أوضاعهم المعيشية والصحية. غلب في حياتنا المعاصرة القيم الفردية، والنفعية الخاصة، واختفت فيها قيم التعاون والتواصل. تجد الجار لا يعرف جاره وهو يسكن بجواره لعشرات السنين. في سنة  رسول الله صلى الله عليه وسلم نقرأ: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» مسلم. يتجلى التعاون من خلال أن نقترب من الفئات الضعيفة المحتاجين، ككبار السن، وذوي الحاجات الخاصة، والمرضى، وأيضا من خلال المشاركة الفعالة في صيانة الأماكن العامة، وبالقيام بالأعمال التطوعية. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « وَتُمِيطُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ» البخاري. معشر الإخوة والأخوات فالحذر من التعامل مع الإسلام بطريقة انتقائية، وبشكل سطحي، نأخذ منه القشور والشكليات، ونترك جوهره الروحي والأخلاقي والقيمي. والنبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن نعامل أهلنا وإخواننا في الإنسانية بمودة ورحمة. قال عليه الصلاة والسلام: «أَحَبُّ النَّاسِ إلى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، يَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ يَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ يَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا» الطبراني.

مقالات ذات صله

تريد البقاء على اطلاع حول أحدث مقالاتي؟

اشترك هنا في النشرة الإخبارية الشهرية