الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
نتحدث اليوم عن موضوع من موضوعات العقيدة الإسلامية: الإيمان بالقدر. والإهتمام بهذا الموضوع ليس للعلم النظري، بل هو لأمور يجب أن يتيقنها المسلم، ويطبع حياته على أساسها. ومعنى القدر هو تقدير الله تعالى للكائنات حسبما سبق به علمه واقتضته حكمته، وهو سر الله تعالى في خلقه، الذي لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فكل شيء بقضاء وقدر، يقول تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ القمر:49. يقتضي الإيمان بالقدر، إمساك اللسان عن الخوض فى دقائقه، ووضع نصب العينين عدل الله ورحمته. بالإيمان بالقدر تطمئن النفس، وتنزاح عنها الأحزان. فما أيسر الحياة عندما يسلِّم الإنسان زمام أمره لخالقه. إن الإيمان بالقدر يربط الإنسان بخالق الكائنات، فيكون بذلك متزنا في تصرفاته، راضيا بما تجري بها المقادير، حين يتيقن الإنسان أن كل شيء في هذا الوجود يسير وفق حكمة عليا، فلا يجزع إذا أصابه ضر، ولا يصيبه غرور إذا انكبت عليه النعم. يقول الله تعالى: «مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ، لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ» الحديد: 22 ـ 23. إن النفس الغافلة عن الإيمان بالقدر تراها تعيش خوفا مزمنا، وهلعا دائما. يدور في مخيلة الشخص أوهام مقلقة كالخوف على الرزق والأولاد، والخوف من المرض، فيعيش تحت ضغط الوساوس والهواجس.
معشر الإخوة والأخوات:
إن الإيمان بالقدر لا يتنافي مع الأخذ بالأسباب، ولا يتخذ سبيلا إلى التواكل، ولا ذريعة إلى القول بالجبر، إنما هو وسيلة إلى تحقيق الغايات الكبرى. علمنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القدر يدفع بالقدر. حيث يدفع قدر الجوع بقدر الأكل، وقدر المرض بقدر العلاج. يروي الإمام البخاري أن أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما أمر المسلمين الرجوع عن دخول البلدة التي انتشر فيها مرض الطاعون «أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ، فَقَالَ عُمَرُ: نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ» البخاري. إن القدر لا ينفي العدل الإلهي، ولا يتعارض مع حرية الإنسان في الإختيار، ولا يسقط المسؤولية عنه. «عَنْ أَبِي خُزَامَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَرَأَيْتَ رُقًى نَسْتَرْقِيهَا، وَدَوَاءً نَتَدَاوَى بِهِ، وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا، هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا، قَالَ: هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ» الترميذي. يُستخلص من نصوص القرآن والسنة أن القدر ليس إلا نظام الأسباب والمسببات التي أقام الله عز وجل عليها الوجود. يحث ديننا على اتخاذ الإسباب في تحقيق مصالحنا، وملإ قلوبنا باليقين بالله تعالى. يقول الله تعالى: «قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» التوبة: 31. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَأَنَّ مَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ» الترميذي.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
معشر الإخوة والأخوات:
يقتضي الإيمان بالقدر التسليم والرضا مع اتخاذ ما نستطيع من الأسباب، فإن حقق مرادنا حمدنا الله وشكرناه، وإن وقع ما نكره حمدنا الله وصبرنا. فلا يؤدي مصابنا المكروه إلى الغضب، واتهام الغير بالتقصير والخذلان. يعلمنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نستقبل القدر خيرا كان أو شرا، فقال: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» مسلم. ومن أهم ثمرات الإيمان بالقدر الطمأنينة بما تجري بها أقدار الله تعالى. إن الحزن والفرح من خصائص الإنسان، فلا قلق بموت عزيز، أو حصول مكروه. يقول الله تعالى: «مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» التغابن: 11. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: للإنسان أربع أحوال في تقبل المصيبة: أحدها مقام العجز والشكوى والسخط، والثاني: مقام الصبر، والثالث: مقام الرضى، وهو أعلى من مقام الصبر، والرابع: مقام الشكر، وهو أعلى من مقام الرضى. يقول الله تعالى: »وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ. أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ« البقرة: 155-157.