الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
يتسم عصرنا الحاضر بطغيان المادة على الروح، وانتشرت فيه عقلية الإستهلاك، فالكل يجري وراء سراب الدنيا ومتعتها، والكل مشغول بتأمين مستقبله القريب أوالبعيد. بسبب طغيان المادة فقدت المعاملات بين الناس الكثير من جوانب التراحم والتعاون. تجعل طغيان المادة الإنسان غريبا في نفسه، تائها في أفكاره، ومتشائما بخصوص مستقبله. إن طغيان المادة على الروح تنسف للإنسان خصائصه نسفا، وتخرب أخلاقه تخريبا. فإذا فقد الإنسان القيم الأخلاقية تجده يسيطر على حقوق شركائه، ويحيف على حقوق اخوته واخواته. إن الإنسان في تصور القرآن الكريم هو عبارة عن امتزاج بين المادة والروح. بفضل هذه الروح الربانية أصبح في جسم الإنسان حياة، وأصبحت فيه أنشطة التفكير والتذكر والتخيل والإرادة والإدراك والحب. تعد الروح الأسس الجوهرية في مفهوم الإنسان، وهي التي تعبر عن شخصية الفرد وذاته. حتى الآن لم يتمكن العلم الحديث من اثبات جوهر الروح بشكل علمي.
وهناك من يتساءل هل الروح مادة أم فكرة، عقل أم شعور، شكل أو مضمون، فرضية أم واقع؟ وصدق الله العظيم حين قال: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» الإسراء: 85. كما أن للإنسان جسد نلمسه بحواسنا، له أيضا روح لا ندركها بحواسنا، وكما أن له دماغ نلمسه بحواسنا، له أيضا عقل لا ندركه بحواسنا. فهل يؤمن الإنسان فقط بما يدركه بحواسه؟ في حقيقة الأمر أن الإنسان يؤمن أيضا بكثير من القضايا التي لا يدركها بحواسه، ولكن يحاول أن يتجاهلها. سبحانه القائل: «الذِي أحْسن كُل شيْءٍ خلقهُ وبدأ خلْق الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُم جعل نسْلهُ مِنْ سُلالةٍ مِنْ ماءٍ مهِينٍ ثُم سواهُ ونفخ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وجعل لكُمُ السمْع والْأبْصار والْأفْئِدة قلِيلًا ما تشْكُرُون» السجدة: 7-9.إن التوازن بين البعد الروحي والمادي من معالم القيم الإسلامية. فكما أن للجسد حاجيات لا غنى للإنسان من إشباعها، فكذلك للروح حاجياته التي يبتغي منها الطمأنينة والسكينة. إن هناك علاقة مطردة بين الروحانيات وحماية الجسد والنفس من الأزمات. فطغيان المادة تؤدي إلى إلحاق الضرر بالنفس، وإلى تفكك الروابط الإجتماعية، كما أن طغيان الروحانية تؤدي أيضا إلى إهمال حاجيات الجسد، وتراجع الحضاري. فلابد من التوازن بين حاجيات الإنسان الجسدية والمعنوية، وبين القيم المادية والقيم الروحية. وبعنى آخر يجب التوازن بين الواقعية والمثالية.
فلا نقبل بعلات الواقع، ولا الخضوع لسيئاته. كما يجب أن تنسجم قيم المثالية مع الفطرة الإنسانية. قال الله تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ » الروم: 30. إن القرآن الكريم لم يحرم شيئا يحتاج إليه الإنسان في حياته اليومية، ولم يبح له شيئا يضره في واقعه، بل راع في تشريعاته حاجيات الإنسان المادية والروحية. قال الله تعالى: «وَٱبْتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ ٱلْفَسَادَ فِى ٱلْأَرْضِ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ»القصص: 77. إن انغماس الإنسان في الماديات على حساب الروحانيات تفقده إنسانيته، فيصبح يفسد أكثر مما يصلح، ويظلم أكثر مما يعدل. قال الله تعالى: «وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ» البقرة: 205. في هذا العصر الذي طعت فيه المادة أصبح الإنسان يتوق إلى الغذاء الروحي. «مَثَل الذي يذكر ربَّه والذي لا يذكر ربه: مَثَل الحي والميت» البخاري. فالذي نعرفه أن جسم الإنسان وعاء للروح، والعقل، وأن كل واحد بحاجة إلى أغذية تناسبه. إن من الناس من يغذي روحه بالتسلية الدنوية، جاهلين أن غذاءها الحقيقي تجده في ذكر الله تعالى وطاعته. فبالذكر تطمئن القلب وترتاح الأبدان وتكشف الهموم وتنجلي الكربات. قال الله تعالى: «ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ ٱللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ» الرعد: 28.