الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
لقد دار عبر تاريخ البشرية جدال حول ماهية الإنسان. هل هو مادة فقط أم هو مادة وروح؟ وما هي طبيعة هذه الروح؟ الأجوبة حول هذه الأسئلة مختلفة ومتضاربة. يرجع ذلك إلى تنوع المرجعيات الثقافية والإعتقادية. لقد أصفت عقيدتنا الإسلامية نافذة يمكن للبشرية أن ترى من خلالها ماهية الإنسان، ومن خلال تدبر آيات القرآن الكريمالظاهرة المعنىوالباطنة يستطيع الإنسان أن يرى عمق نفسه ويكشف حقيقة هذا الكون الفسيح. قال الله تعالى: «أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُۥ ظَٰهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِى ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍۢ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَٰبٍۢ مُّنِيرٍۢ» لقمان: 20. لقد جعل الله تعالى الإنسان سيدا في هذا الكون ليشكره لا ليكفره. إن القرآن الكريم المنزل من عند الله تعالى يلفت أنظارنا إلى أن الإنسان يجادل في قضايا لا يستطيع اعتمادا على عقله وحده أن يدرك كوامنها وأن يفهم أسرارها. يؤكد القرآن الكريم على أن للإنسان حقيقة مادية وروحية. وفي هذا يقول الله عز وجل عن حقيقة مادية الإنسان وروحيته: « الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ. ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ۖ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ» السجدة: 7 – 9. يمر الإنسان بصور مختلفة ومتنوّعة في تطوّره الجسماني والروحي، وكل صورة تحكمها قوانين وفعاليات تؤدي إلى تطوره أو جموده.
إن التبصر في عناصر تكوين الإنسان يثمر ثمرة الإيمان بالله تعالى، والإيمان يقوي علاقة الإنسان بربه، ويضبط سلوكه بمحيطه. خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وجعله جسدا ماديا، ونفسيا حيوانيا، وروحا ملكيا. مكونات ثلاثة تتصارع داخل الإنسان. إذا نظرنا إلى الجانب الجسماني نجد أنه محتاج إلى مقومات الحياة. فهي وسيلة لبلوغ غايته. لأن إذا وهن الجسد فشل الإنسان في تحقيق دوره الإنساني. فكل إنسان بحاجة إلى رعاية تحفظ صحته، وعدالة تصون كرامته. لقد ارتضى بعض الناس الإستمتاع بالحياة أو القوة على حساب حقوق الضعفاء بأي وسيلة، سواء بالسلب أو الخداع أو القتل. فهذا النوع من اللإنسان يحمل في كيانه نفسا مليئة بالرغبات و الإندفاعات نحو الشر، جاهلة أمر الله عز وجل ومصير الذي ينتظر كل ظالم وطاغية. قال الله تعالى: «وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ» سبأ: 31. تُفقد هذه النفس الحيوانية الإنسان إنسانيته. فيهتك الحرمات، ويهدر كرامة الآخرين. إن الإنسانية هي جوهرة وجود الإنسان، وذاته النورانية. يكسب الإنسان إنسانيته من خلال صلته بالله تعالى، فهي تقوي استعداداته الروحية الكامنة في فطرته. تكبح نورانية الإنسانية جماح غرائزه السلبية، وتمنحه قوة في التعامل مع ألآخرين وفق مبدأ الأخوة الإنسانية. «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» الحجرات: 13. وقال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: «النَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ» الترميذي.
الحياة الروحية مرتبطة بحسن التفكير، وحسن التفكير مرتبط بحسن العمل والتصرف. يسمو الإنسان بحسن العمل في سماء الجمال. قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ. قَالَ رَجُلٌ إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً. قَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ» مسلم. يتعلق الجمال الوارد في الحديث النبوي الشريف بالشكل والمضمون. يتضمن القرآن الكريم فيوضات نورانية، وتجليات روحانية تجعل الإنسان يعيش تجربته الجمالية على المستوى الوجداني والإجتماعي. تكمن معاني الجمال في صفاء النفس، وطهارة القلب، ورجاحة العقل. إن للجمال في الإسلام قيمة عليا، فهو في حقيقته يتجاوز جمال الشكل الظاهر إلى جمال الروحي الباطن. من خلال هذا نستطيع أن نفهم بأن فلسفة االإسلام قائمة على مجموعة من التوازنات بين الروح والجسد. إن الإنسان في نظر الإسلام كل لا يتجزأ، وأن كمال تربيته تتم برعاية حاجياته الجسدية والمعرفية والعاطفية والوجودية.