لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
يتناول القرآن الكريم القضايا الكونية بطريقة مثيرة للإهتمام، فهو يشير إليها إشارة مجملة، ولا يتناولها بالتفصيل والشرح، تاركا للإنسان المجال للبحث والدراسة. وتجدر الإشارة إلى أن القرآن الكريم ليس كتاب نظريات علمية، وإنما هو كتاب هداية، ومنهج لتقويم حياة الفرد والمجتمع. قال الله تعالى: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا» الإسراء: 9 ويتضح من خلال قرائتنا للقرآن الكريم إن كثيرا من القضايا الكونية الواردة في القرآن الكريم يكشف عنها العلم التجريبي يومًا بعد يوم، وإن كتاب ربنا يتضمن من الحقائق العلمية ما يبهر العلماء على مر العصور، وإنه حجة الله على الناس جميعا. ذكر الله تعالى القضايا الكونية في القرآن الكريم لما لها من علاقة بالشعائر التعبدية. ومن القضايا الكونية التي ذكرت في القرآن الكريم الشمس والقمر، وإنهما آيتان من آيات الله تعالى، وإن لهما دورا كبيرا في تحديد مواقيت وأزمنة العبادة في الإسلام. بخصوص الصيام للقمر دور أساسي في تحديد دخول شهر رمضان، وللشمس دور مهم في تحديد طول يومه. كانت لدى المسلمين الأوائل دوافع دينية للإهتمام بعلم الفلك. إن تحديد أوقات الصلاة يستلزم معرفة موقع الأرض من الشمس، قال الله تعالى: «أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً 78 وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً 79» الإسراء. ويقتضي تحديد جهة القبلة معرفة موقع البلد بالنسبة للكعبة المشرفة، وكذلك يوجب تحديد بداية صيام رمضان ونهايته بمعرفة طرق رؤية الهلال، وقال الله تعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» يونس: 5.
معشر الإخوة والأخوات:
وهكذا يخبر الله تعالى عن صنعه الدال على كمال قدرته، وعظيم سلطانه، وأنه جعل الشعاع الصادر عن جرم الشمس ضياء، وشعاع القمر نورا، وقدر القمر منازل، فأول ما يبدو صغيرا، ثم يتزايد نوره، حتى يستوسق ويكمل إبداره، ثم يشرع في النقص حتى يرجع إلى حاله الأول في تمام الشهر. وضع المسلمون ضوابط في إستعمال علم الفلك لتحديد التقويم الإسلامي أولها: التقويم الهجري، حيث قال الله تعالى: «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ» التوبة: 36. والقاعدة الثانية: إن بداية الشهر لا يبدأ مع المحاق الفلكي وهو غياب القمر وراء الشمس، أو بما يسمى بالإقتران أو ولادة الهلال، وبذلك يكون غير مرئي، وإنما يبدأ بظهور الهلال. قال الله تعالى: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ» البقرة: 189. إن الإهتمام بالمراصد قديم في الحضارة الإسلامية، منذ القرن الثاني الهجري الموافق للثامن الميلادي اهتم المسلمون بعلم الفلك، ولقد استفاد العلماء المسلمون من تراث اليونان والهند، وأضافوا إلى ذلك مكتشفات دقيقة في علم الفلك والحساب، فكان لقاء الحضارات على مر العصور سمة أساسية في الأعمال العلمية. يشير القرآن الكريم إلى أن للقمر منازل، وقد عدها علماء الفلك بثمان وعشرين منزلة، ومن خلال تحرك القمر من منزلة لأخرى تختلف أطواره، فتارة يكون محاقا، وتارة يكون هلالا، وتارة يكون تربيعا، وتاة يكون أحدبا، وتارة يكون بدرا. قال الله تعالى: ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَاد كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ﴾ يس: 39. واشتغل علماء الفلك بموضوع رؤية الهلال، حتى أصبحوا قادرين على حساب إمكانية رؤية الهلال مسبقا، وتتسم هذه الحسابات بدقة عالية.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
معشر الإخوة والأخوات:
بخصوص بداية شهر رمضان قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلاَلَ، وَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ» البخاري. وفي رواية له «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلاَثِينَ» ذكر الإمام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ» أي استدلوا عليه بمنازله، وقدروا إتمام الشهر بحسابه. وقال الجمهور: معنى “فاقدروا له” فأكملوا المقدار، يفسره حديث أبي هريرة فأكملوا العدة.وقال أبوا الوليد بن رشد في كتابه بداية المجتهد ونهاية المقتصد: فأما اختلافهم إذا غم الهلال: فإن الجمهور يرون أن الحكم في ذلك أن تكمل العدة ثلاثين، وروى بعض السلف أنه إذا أغمي الهلال رجع إلى الحساب بمسير القمر والشمس ، وهو مذهب مُطرِّف بن الشِّخِّير وهو من كبار التابعين. وحكى ابن سُريج عن الشافعي أنه قال: من كان مذهبه الاستدلال بالنجوم، ومنازل القمر، ثم تبين له من جهة الاستدلال، أن الهلال مرئي وقد غم، فإن له أن يعقد الصوم ويجزيه. إن الإعتماد على الحساب الفلكي الذي يقضي بإمكانية رؤية الهلال هو الأنسب للمسلمين في أوروبا، والأكثر تحقيقا لماصالحهم، حيث تستطيع المدارس والشركات والمصالح العمومية معرفة يوم العيد حتى يرتبوا عطلة ذلك اليوم. إننا نعتمد على الحساب الفلكي في صلاتنا، ونعتمد عليه أيضا في الإمساك والإفطارفي رمضان، فالأولى أن نأخذ به أيضا في تحديد بداية الشهر الهجري. لقد أنكر بعض الفقهاء في الماضي بالأخذ بالحساب الفلكي في تحديد مواقيت الصلاة، ثم أخذوا به فيما بعد. إن مسألة تحديد بداية الشهر مسألة خلافية، فعلى المسلمين في أوروبا أن يكون لهم مرجع إسلامي أوروبي يراعي مصالحهم الدينية والإجتماعية، ويرفع عنهم الحرج الذي يجدونه في مدارسهم وأعمالهم، مما يجعل ذلك سببا في السخرية بالإسلام، وربطه بالتخلف، ولا شك أن لذلك تأثيرا سلبيا على شبابنا، وعلى انتمائهم لهذه الشعائر. إن اجتماع المسلمين على مرجعية إسلامية أوروبية ضرورة شرعية، والإستقال عن مراجع الشرق ضرورة اجتماعية، حيث إن المسلمين في البلاد الإسلامية لا يعانون بما يعانيه إخوانهم في بلاد الغرب.
المراجع:
- كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لأبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد القرطبي
- الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي) لمحمد بن أحمد الأنصاري القرطبي أبو عبد الله.
- رؤية الهلال من منظور علمي وشرعي لمحمد شوكت عودة.
الحساب الفلكي في إثبات الشهور، من خلال أراء العلماء وأدلتهم، والمآلات والمصالح المتعلقة بالوجود الإسلامي في الغرب، للشيخ أمين الحزمي.
- منازل القمر، للدكتور ياسين محمد المليكي، أستاذ قسم العلوم الفلكية بجامعة الملك عبد العزيز
- إنجازات المسلمين في علم الفلك، للدكتور عبد الله حجازي.
منازل القمر في علم الفلك للدكتور زغلول النجار.