الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
نعيش واقعا مليئا بالفتن. عالمنا تجتاحه أمواج من فتن القتل والهرج. يتعرض الأطفال في عالمنا المتحضر للعنف ومشاهد دموية محزنة كثيرا. كيف تكون ردود الأفعال لهؤلاء الأطفال الذين تدمر نفسيتهم الإنسانية. ماذا ينتظر المجتمع الدولي من هؤلاء الأطفال الذين تدمر هويتهم الإنسانية. تجرّ فتن الحروب على الإنسانية شرورا عظيمة، وفسادأ عريضا، كم من نفس بريئة سُفكت دمها؟ وكم من أسرة شريفة شردت من بيوتها، ويتمت أطفالها؟ وكم من ممتلكات ثمينة دمرت؟ من أجل ماذا يقتل الإنسان أخاه الإنسان؟ ولسبب ماذا تدمر هذه الثروات الثمينة؟ أهي جشع الحسد الذي أعمى قابيل، حتى طوعت له نفسه قتل أخيه هابيل؟ أم أن بعض الناس لا تتحقق سعادتهم إلا بتعاسة الآخرين؟ أم هي غريزة تكنها القلوب، وتضمرها الصدور ولا سبيل لإثبات وجودها إلا عن طريق القتل والدمار؟ أم هي مشاعر اليأس والاحباط التي تنتاب غالبية الحكام، إلا أن الواقع يكشف ما لا يمكن التستر عليه؟ ينقل القرآن الكريم الواقعة التي دارت بين قابيل و هابيل بقوله: «وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَىْ ءَادَمَ بِٱلْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ ٱلآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ» المائدة: 27. فالسؤال الذي يفرض نفسه هل الحقد والعنف في الحياة الإنسانية ظاهرة طبيعية، أم هي ظاهرة مرضية؟ لا ريب أن الطبيعة الإنسانية التي خلقها الله تعالى هي طبيعة مسالمة في الأساس. تأبى الطبيعة الإنسانية أن تلحق الأذى بالآخرين، كما تأبى أن يلحقها عنف من أحد،. قال الله تعالى: «وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا» البقرة: 125. لا يمكن أن نتجاهل أن الحفاظ على الأمن والاستقرار من الأهداف التي يطمح إليها كل إنسان سليم التفكير والمشاعر. قال الله تعالى على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا» إبرايم: 35.
إن الفتن إذا حلت ببلد يَصلى بنارها جميع البلدان، ويلحق ضررها من قريب أم بعيد واحدة تلو الأخرى. يقول الله تعالى ملفتا أنظارنا لذلك: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً» الأنفال: 25. في الآية الكريمة إشارة إلى أن شرارة الفتنة لا تصيب البلد الواقعة فيها فحسب، بل هي تتعدى إلى غيرها، لذلك إنه من واجب المجتمع الدولي التصدي لإطفاء نار الحروب والقتل والدمار بالوسائل الكفيلة، وإلا أنه يساهم في غرق العالم بدماء الأبرياء من الأطفال والعجزة. يرشد سيدنا محمد ﷺ بمثال واضح إلى أن إذا لم يؤخذ على يد المدمر أوشك أن يعمنا الدمار جميعا، فكيف يكون واقع عالمنا إذا كانت القوى العظمى تساعد المنتهك للحرمات، وهدم البيوت على أهلها؟ في هذا السياق قال ﷺ: «مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا. فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا» البخاري. عبر النبي ﷺ بالسفينة تعبيرا مجازيا عن مسيرة الحياة، بمعنى أن حل النزاعات في أيدي القوى العاقلة في المجتمع الدولي، فهي تستطيع أن تحدث التوازنة بين القوى الغاضبة والقوى الشعبوية. فالسؤال الذي يفرض نفسه: لماذا نجحت القوى الشعبوية في استغلال المشاعر العاطفية للقوى العاقلة في المجتمع الدولي لتحصل على الدعم المادي والمعنوي. وفي المقايل لماذا فشلت وقلت حيلة القوى الغاضبة في إقناع القوى العاقلة في المجتمع الدولي بقضاياها والظلم الواقع عليها. أم أنها لم تجد من يسمع إلى قضيتها، فاختارت أن تلجأ إلى خالقها، فتقول ما قاله سيدنا محمد ﷺ حينما توالت عليه الكربات، فقال: «اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي، وَقِلّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ! أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي ، إلَى مَنْ تَكِلُنِي! إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي! أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي». ابن هشام. في الواقع أن القوى العاقلة في المجتمع الدولي هي التي تملك القدرة للتعامل مع التحديات ومشاكل عالمنا بطرق منطقية وسلمية. إن حياتَنا المعاصرةَ رغم ما وصلت إليه من رقيّ ماديّ، وتقدم حضاريّ لا تزال ترزَخ تحت نيران شريعة الغاب؛ الحروب والتسلط وعدم الإستقرار، وأيّ طعمٍ لحياة الرفاهية تحت هذه المعاني القاتمة الكالحة! إن من مقاصد ديننا الحنيف درء كل مفسدة عن الأفراد والشعوب ليعيش الجميع في أمن واستقرار. في أجواء الفتن يرشدنا سيدنا محمد ﷺ بقوله: «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ » مسلم.