الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
يرفع الإسلام من شأن نية الإنسان، ويعلي من قيمتها ومنزلتها، حيث بالنية الحسنة يكسب الإنسان رضا الله تعالى. إن المعيار الرئيسي الذي يقاس به القول والفعل هو القصد أي النية. فالنية شرط لازم لكل عبادة، ولكل عمل أخلاقي. وهي تدل على حضور الوجدان في أي قول أو فعل، ونيتنا هي عصب حياتنا وروحها. وقد قيل إن القصد من القول يحقق قيمة الإحسان، والقصد من الفعل يحقق قيمة الإصلاح. عرفت النيّة بأنها حالة نفسانية وجدانية يعبّر عنها بالهمّة والعزم والإرادة والقصد. إن النية مسؤولية فردية لا تجوز فيها النيابة، ولا يعرف كنه أسرارها إلا صاحبها. لذلك لا يصح أن نحكم على صلاح الإنسان أو فساده من خلال مظهرهم الخارجي. قد تبدو بعض التصرفات في ظاهرها بطريقة معينة محيرة، لكن قد تحمل في باطنها مقاصد شريفة. إن القصد في الإسلام جوهر في تقييم فعل الفاعل، وتحديد صلاح فعله أو فساده، سواء كان الفعل طاعة أو نشاطا أخلاقيا. تعبر النية عن الموقف الوجداني، والتوجيه الذاتي على مستوى السلوك والتفكير والاعتقاد. فهي تكشف مدى تطابق حقيقة باطن الإنسان مع حقيقة ظاهره. نحن نرى ظاهر الإنسان، ولكن الله تعالى يرى ما تحمله القلوب من خير وشر، حيث أن القلب هو الذي يعكس الصورة الحقيقية لشخصية كل واحد منا. نقرأ في صحيح مسلم أن سيدنا محمد ﷺ قال: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلاَ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ». فإخلاص العمل لله تعالى هو المعيار الأساسي في تقييم العبادة و الأعمال الخيرية. نقرأ في كتاب الله تعالى: «قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ. وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ» الزمر: 11ـ 12.
إن البعد الوجداني هو أكبر قوة افي الإنسان لإشعاع الجمال الروحي على الوجود الظاهري. يخوض كل إنسان في رحلة الحياة صراعا بين الوجود الظاهري والوجود الوجداني. فالسؤال الذي يطرح نفسه: كيف يستطيع أي انسان منا أن يحقق توازنا بين الوجود الوجداني والوجود الخارجي. يحتاج كل واحد منا أن يتحلى بمبادءئ التي تضمن له النجاح في الوجودين. من هذه المبادئ الإخلاص في القصد والصدق في العمل والسلوك. إن الإخلاص هو جوهر كل نجاح سواء كان العمل دنيوي أو أخروي. وعلى هذا الأساس توزن الأعمال التعبدية والدنوية بميزان النيات عند الله تعالى. نقرأ في تراثنا الإسلامي أن رجلا في عهد النبي ﷺ أحب إمرأة، إسمها أم قيس، ورغب الزواج منها، لكنها اشترطت عليه الهجرة الى النبي ص إلى المدينة المنورة، فوافق على شرطها، وهاجر مع المسلمين لا من أجل نصرة النبي ﷺ، ولكن من أجل حب شريكة حياته. وسمي الرجل بمهاجر أم قيس. فبدأ القيل والقال في مهاجر أم قيس. بفضل سعة نظرة الإسلام لم ينكر النبي ص ولم يعب فعل الرجل وقصده، بل رآى أن الرجل يحمل في باطنه مقصدا نبيلا، حيث سعى ليؤسس أسرة. بسبب هذه القصة قال سيدنا محمد ﷺ: « إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» مسلم. يحتوي هذا الحديث النبوي على أخلاق رفيعة، وطرق نبيلة في النظر إلى سلوك الناس.. من خلاله يعلمنا سيدنا محمد ص المحافظة على أعراض الناس، وعدم الخوض فيها بناء على ما يبدو لنا في الظاهر، فمن يدري نيته وأحواله، حيث لم يشق أحد عن قلبه ليعلم ما حقيقة نيته. يدعونا القرآن الكريم إلى حسن الظن بالناس، وحمل ظاهرهم على محمل حسن، كما يدعونا القرآن الكريم إلى الابتعاد كل البعد عن سوء الظن بالناس؛ لأن سرائرهم ومقاصدهم لا يعلمها إلا الله تعالى. قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ، وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا» الحجرات: 12.