الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد لله الذي هدانا لنعمة الإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
إن دينا الحنيف دين الفضائل والمحاسن، دين الترابط والتعاون، دين أساسه التوحيد، وعماده العبادة، وشعاره الإقتداء بالرسول الله صلى الله عليه وسلم في الاعتقاد، والسلوك والعبادات. يقول الله تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا الكهف: 110. إن الإسلام دين شامل لجميع مصالح الناس في معاشهم ومعادهم. إن دين الإسلام أنزل من عند عالم بأسرار الكون، وعالم بما يُصلح النفس الإنسانية في مختلف الأزمان والأماكن، شرع الله فيه من العبادات والمعاملات ما يحفظ كيان الإنسان، ويسعده في الدنيا والآخرة. إن حياة الإنسان في الدنيا أنفاس معدودة، وآجال معلومة، وأرزاق مقسومة، يقول الله تعالى: وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ فاطر: 11. إن الإنسان يعيش في وسط هموم الدنيا، وما أكثرها: هم الدراسة والعمل، هم الأبناء والأسرة، وهم المجتمع والعالم بأسره. ينبغي على المسلم أن يخفف من هموم الدنيا، ويجعل همه الأكبر الآخرة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهَ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ» الترمذي.
إن كثيرا منا من يغفل عن الموت وسكراتها، وعن القبر وظلمته، وعن سؤال منكر ونكير، يوم لا يُميز فيه بين القوي والضعيف، ولابين الفقير والغني، يوم يُذل فيه المتجبر الظالم، ويُعز فيه الضعيف المظلوم، ويستريح فيه العبد المؤمن من هموم الدنيا ومتاعبها، روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ ” مُسْتَرِيحٌ، وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ: الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلاَدُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ ». إن الموت كتبه الله على بني آدم، وأن القبر مصيره. يقول الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورآل عمران: 185. إن الإسلام يعلمنا أنه لن تموت نفس حتى تستكمل أجلها الذي كتبه الملك وهي في بطن أمها، فإذا جاء أجلها لا ينفع دواء الطبيب، ولا يفيد تدبير الحكيم. يقول الله تعالى: فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَالنحل: 61. فالمرض ليس هو السبب الحقيقي للموت، وإنما هو حالة من الحالات التي قد يشفى منها المريض إذا لم يحن أجله، لقد دلت الآيات القطعيات على أن السبب الحقيقي للموت هو الأجل الذي كتبه الملك في صحيفة كل انسان،. يقول الله تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مؤجلاآل عمران: 145. لن يموت أحد إلا بقدر اللّه وحتى يستوفي المدة التي ضربها اللّه له، ولهذا قال: كتاباً مؤجلاً ويقول تعالى في آية أخرى:اللَّهُ يتوفى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَاالزمر: 42.
بارك الله لي ولكم في القران العظيم …ونفعني وإياكم بما فيه من الايات والذكر الحكيم …أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
كم من إنسان أصيب بأعراض مرضية متعددة، كفشل الكلوي وقصور القلب، ومرض السكري، وضغط الدموي، وقصور في التنفس، قد تؤدي هذه الأعراض المرضية إلى عدم القدرة على المشي والحركة، ومعانات بآلام حادة ومستمرة، وينتج عن هذه الأعراض ضغوط نفسية التي قد تؤدي بدورها إلى اليأس، حتى أن المريض يتمنى الموت ولا يأتيه، ولولا أن الله عز وجل يقول: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً النساء: 29. لجعل لحياته نهاية، لكن ايمانه بالله تعالى يجعله صابرا محتسبا أمره إلى الله تعالى، ويقول حسبي الله ونعم الوكيل. إن النفس البشرية تتعطش إِلَى الخلود، وتحرص كل الحرص على الحياة، وهذا الحرص قد يؤدي بالمريض وأسرته إلى الإنكار التام لحالته الميؤوسة منها، ومن المؤسف أن نرى من مرضى المسلمين أومن أهلهم من يغضب حين يخبره الطبيب أن حالته ميؤوسة منها، وأنه لا يوجد لمرضه علاج، ومن المؤسف أن يصدر هذا السلوك من مسلم يؤمن أن الأعمار بيد الله، وليس بيد الطبيب. إن انكار المريض أو أسرته لتشخيص الطبيب يؤدي بهم إلى الإنفعال والهياج، وبهذا السلوك قد يشتم بدوره الطبيب أو ينقص من قدره. إن عدم تقبل ما ابتلي به المسلم من المرض يجعله يتهم الأطباء وينتقدهم، ويتذرع بمختلف الحجج لتفريغ شحنة الغضب التي تَتَلجْلج في صدره، مما يظهر معاناته النفسية. فعلى المسلم أن يلتجأ في هذه الحالة الى من يساعده نفسيا، ويستسلم أمره إلى الذي يحيي ويميت. قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ أَمْتِعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ . فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ” قَدْ سَأَلْتِ اللَّهَ لآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ، وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ، أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّهِ، وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ أَوْ عَذَابٍ فِي الْقَبْرِ كَانَ خَيْرًا وَأَفْضَلَ» مسلم. لقد أنشد الإمام الشافعي:
تزود من الدنيا فانك لا تــــدري اذا جن الليل هل تعيش الى الفــــجر
فكم من صحيح مات من غير عـلة و كم من سقيم عاش حينا من الـــدهر
وكم من فتى أمسى وأصبح ضاحكا وقد نسجت أكفانه في الغيب وهو لا يدري
وكم من عروس زينوها يوم العرس وقد زفت روحها ليلة البــــــــدر