الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجَنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
جاءت رسالة الإسلام السّمحة بنموذج مُتميز للرحمة، تُعدّ الرّحمة خلقًا رفيعًا، وإنّ من أسماء الله الحسنى الرّحمن الرّحيم، وبهما نفتتح كلَّ سورةٍ . والرحمن والرحيـــم اسمان مشتقان من الرحمة، إن الدّين الإسلامي حث على الرّحمة، وأمر أتباعه بالتخلّق بهذه الصّفة الحميدة. وما كانت بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلا رحمة. قال الله تعالى: «وَمَا أَرسلناكَ إلّا رحمةً للعالَمين» الأنبياء: 107. فكان عليه الصلاة والسلام أرحم النّاس، وأوسعهم صدرًا. إن مبادئ الإسلام مبنية على الرحمة في أصوله وفروعه، وفي أوامره ونواهيه. فإذا تدبرنا مبادئ الإسلام في معملات الزوجين والوالدين والأبناء والأقربين والجيران والناس عامة نجدها مبنية على الرحمة. قال الله تعالى: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ« النحل:89. وقال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لاَ يَرْحَمُ النَّاسَ» البخاري. إن شرع الله عز وجل نور ورحمة وهداية، فهو يحتوي على الرحمة المحققة للأخوة والكرامة والفلاح. فشرع الله تعالى مبني على التيسير ورفع الحرج والمشقة على الناس. حتى ما حرمه الله عز وجل نجده كله رحمة؛ فبذلك يحفظ الإنسان عقله وبدنه وماله واسرته من الهلاك والضياع. كما أن الله عز وجل يعاملنا بالرحمة والإحسان، ويكرمنا بالصفح والغفران، كذلك يريد سبحانه وتعالى منا أن نعامل الناس والحيوانات حتى الطبيعة. قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» أبو داود. وأولى من يحتاج إلى العطف والحنان خاصة عند المشيب والكبر، إذا ضعفت قواهما، والتهبت الأحاسيس مشاعرهما، هما الوالدين. قال سبحانه: «وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا» الإسراء: 23. تجلت رحمة الإسلام كذلك بالحيوانات في مواقف كثيرة نقلتها لنا نصوص الشرع، وفي الرفق بالحيوانات قال صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ فَقَالَ الرَّجُلُ لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ بِي، فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلأَ خُفَّهُ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ، فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا. فَقَالَ: فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» البخاري. وكذلك على أساس الرحمة ينبغي أن تبنى الحياة الزوجية، فيعطف الزوج على زوجته، والزوجة على زجها. إن الرحمة والتراحم قوام الحياة الزوجية، والروابط الإجتماعية، فبها تتوارى الأنانية، وتحل محلها الشفقة والحنان. قال الله تعالى: «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» الروم: 21 .
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
معشر الإخوة والأخوات:
لقد أرشدنا الإسلام إلى مبادئ التي تساعدنا على إقامة المجتمع الذي ترفرف على جنباته رايات الرحمة والتسامح، وتظلله سحائب التعاون والتضامن. إن القرآن الكريم يوجهنا في آيات كثيرة أن نسلك الطريق الذي نهذب به أنفسنا، فنصبح بذلك أرق قلبا، وألين طبعا، وأهذب سلوكا، وأوفر حظا من رحمة الله تعالى. ولتحقق ذلك فلنكثر من دعاء أصحاب الكهف: «رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً» الكهف: 10. كم نحن معشر الإخوة والأخوات محتاجين إلى خلق الرحمة، وخصلة التراحم، فنرق لآلام الآخرين، ويعايش أحزانهم، ونستشعر آمالهم. إن الرحمة هي من أهم الأعمدة التي يجب أن يقوم عليها المجتمع، من خلالها يستشعر كل فرد من أفرادها بالوحدة والألفة. يحثنا ديننا الحنيف بالإهتمام بالفئات الضعيفة. والفئات المستحقة للرحمة والإهتمام هم: المرضى، وكبار السن، وذوي الإحتياجات الخاصة، فهم جديرون بالرحمة والإحسان والزيارة والدعاء، فالإحسان إليهم من أزكى القربات، وهي أيضا تبعث في النفس السكينة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل:« إِنْ أَرَدْتَ تَلْيِينَ قَلْبِكَ فَأَطْعِم الْمِسْكِينَ، وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ » أحمد. ومن الفئات المستحقة للرحمة والرأفة، خصوصاً في عصرنا الحاضر، فئة المضطهدين والمهمشين. فالإسلام والإنسانية يفرضان على كل واحد أن يقوم بدور بارز في تحسيس المجتمع بضرورة الوقوف بجانب الفئات المهمشة والفئات المعوزة، لتخليصها من براثين االإذلال، والسخرية والتهميش. إن المجتمعات المعاصرة مجتمعات متعددة الثقافات والعقائد، فلم يعد للثقافة الأحادية مكان في عالمنا المعاصر. قال الله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» الحجرات: 13. يؤكد القرآن الكريم على وحدة أصل الإنسانية، مع الإقرار بمبدأ التنوع، ويؤكد على ضرورة التعارف والتفاهم بين الناس، وتبادل المنافع بينهم. إن تعايش الثقافات ركيزة أساسية في تفعيل التنمية الإجتماعية والإقتصادية، وفي بناء الحضارة المعاصرة. يستوجب التنوع الثقافي احترام عادات وتقاليد الآخرين. إن مكارم الأخلاق، وحسن المعاملة هي الأساس الذي بنى الإسلام علاقة الناس فيما بينهم. قال الله تعالى: «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ» الزخرف: 32.