الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
فرض الله الصيام تزكية للنفوس، وترويضا على صفات الصبر والإخلاص. فالصيام أحد أركان الإسلام المعلوم من الدين بالضرورة. قال الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» البقرة:183. إن الصيام عبادة روحية وجسدية، فهي تغذي الروح، وتهذب السلوك، وتطهر الجسد. لقد فرض الله تعالى الصيام ليربي الناس على النظام، ويرفعهم إلى أسمى مراتب الكرامة. فالصيام وسيلة لتعديل السلوك السلبي، وتعزيز السلوك الإيجابي. إن أصل جمیع المحامد هو ضبط النفس في رغباتها. ان التحكم بالنفس هو المفتاح لتحقيق الرغبات الهادفة. جعل الله سبحانه وتعالى الصيام فرصة للمسلم والمسلمة للتخلص من العادات السيئة مثل الغيبة، والتدخين، وتعزيز العادات الحسنة، مثل الطعام الصحي. كما أن للصيام أثرا في تقوية الإرادة الإجابية، فالإرادة الإجابية هي أم الأخلاق. فمن الناحية الأخلاقية: هل من المعقول أن يغش أو يخون أو يغدر الصائم؟ هل من المعقول أن يزني الصائم؟ هل من المعقول أن يظلم الصائم؟ لهذا قال أحمد شوقي: وإذا أصيب القوم في أخلاقهم … فأقم عليهم مأتما وعويلا. يساعد الصيام على تقوية التحكم في الذات، وإحداث التوازن بين مطالب الجسد والنفس. فاعتنم أيها المسلم وأيتها المسلمة فرصة الصيام للتفكر في ذاتك وتنمية قدراتك الروحية. وصف النبي صلى الله عليه وسلم شهر رمضان: بأنه «تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ النَّارِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، وَيُنَادِي مُنَادٍ كُلَّ لَيْلَةٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ هَلُمَّ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ» النسائي. إن الله عز وجل جعل شهر رمضان مناسبة للتغيير نحو الأفضل والأحسن، وإن الصيام مدرسة روحية، في ظلالها يتربّى المسلم والمسلمة على سلامة الصدر، وطهارة القلب، والتمرّن على إمساك اللسان، وحفظ السمع، وغض البصر عن كل ما من شأنه أن يؤدي به إلى الإفلاس في الدنيا والآخرة. فالصيام تربية عملية على الإخلاص والإحسان والصدق والحياء والقناعة والتسامح والأمانة وحسن المعاملة. «فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ، وَلاَ يَسْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ» مسلم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
معشر الإخوة والأخوات:
تتجلى في الصيام عبادة من أعظم عبادات القلب، ألا وهي إخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى: «إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ. أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ» الزمرَ: 2. وقال تعالى: «قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي. فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ»الزمر: 14-15. وقال تعالى: «وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا» النساء: 125. وقال صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلاَّ بَاعَدَ اللَّهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا» مسلم. والشق الثاني للإخلاص هو اتقان العمل، وعدم الغش والخداع. قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: «إِنّ اللَّهَ تَعَالى يُحِبّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ» البيهقي. شُرِع صيام رمضان لمعانٍ سامية، وحكم بالغة. إن دين الإسلام مبني على عبادات واضحة المقاصد، ونبيلة المصالح. نقرأ في كتاب الله وفي سنة سيد المرسلين أن الصيام لجام المتقين، وجنة الأبرار، وروضة السائرين. يتدرب المسلم والمسلمة بعبادة الصيام ليكونا مثالا في الأخلاق والسلوك، فلا يسب أحدا، ولا يغش، ولا يشهد الزور، ولا يؤذي أحدا. وصدق الله حين ذكر حكمة الصيام في قوله تعالى: «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ». بمعنى: يتدرب المسلم والمسلمة بالصيام لضمان قوة روحية، وهي تمنح للنفس السكينة والسلام، وتحمي الذهن من الوساوس السلبية. كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى رجل: «أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي لا يَقْبَلُ غَيْرَهَا، وَلا يَرْحَمُ إِلا أَهْلَهَا، وَلا يُثِيبُ إِلا عَلَيْهَا، فَإِنَّ الْوَاعِظِينَ بِهَا كَثِيرٌ، وَالْعَامِلِينَ بِهَا قَلِيلٌ» حلية الأولياء. والتقوى هي أجمل لباس يتزين بها المسلم والمسلمة. «يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ» الأعراف: 26. وهي أفضل زاد يتزودان به. «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ»البقرة: 197.