الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»
حدد الإسلام الطريقة المشروعة التي يرتبط بها الرجل والمرأة، فشرع الزواج وحث عليه، ودعا إلى تيسيره، قال الله تعالى: «وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ»النــور: 32. إن الشباب هم أعمدة المجتمع، وهم آباء وأمهات المستقبل، لذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يساعدهم في بناء حياتهم الأسرية، و أن ييسروا لهم أمر الزواج، وألا يعقدوه عليهم بكثرة المطالب، حتى لا يكون الشباب عرضة للإنحراف الأخلاقي، وارتكاب ما حرم الله تعالى. بناء على ما لهذه الرابطة المقدسة بين الرجل والمرأة من أهمية في النظام الإجتماعي تولى الشرع المقدس رعايته بدقة وتفصيل، حيث فصل أركانه وشروطه، وحدد أحكامه. وأركان الزواج هي: الزوجان، الولي، الصداق، والإيجاب والقبول. وأول أركان الزواج الزوجان الخاليان من موانع صحة الزواج، والمتمتعان بأهلية الزواج. لتحقيق استقرار الحياة الزوجية واستدامتها اشترط جمهور الفقهاء الكفاءة في الزواج. إن القبول النفسي والإرتياح بين الزوجين من أهم العوامل لنجاح حياتهما الزوجية والأسرية. والمقصود بالكفاءة ليس التطابق، ولكن مجرد التقارب، ويكون التقارب في المستوى الديني والفكري والثقافي والعمري من أجل توفير استقرار الحياة الزوجية. واستدل الفقهاء على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: «يَا عَلِيُّ ثَلاَثٌ لاَ تُؤَخِّرْهَا: الصَّلاَةُ إِذَا آنَتْ، وَالْجَنَازَةُ إِذَا حَضَرَتْ، وَالأَيِّمُ إِذَا وَجَدْتَ لَهَا كُفْؤًا» الترمذي. يراعي الإسلام في بناء الأسرة طبائع النفس البشرية في ميولتها ومشاعرها، ضمن ما يحقق المصلحة الشرعية، ويدفع المسفدة المتوقعة. إن عدم الكفاءة بين الزوجين أصبح اليوم من أهم أسباب الطلاق في مجتمعاتنا. لقد حدد الفقهاء الكفاءة بين الزوجين في الشروط التالية: أولها الإسلام. اعتبر الفقهاء التدين من أعلى درجات الكفاءة، حيث أن اختلاف المفاهيم الدينية له أثر سلبي في العلاقات الزوجية والأسرية. واستدلوا على ذلك أولا بقوله تعالى: «وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» البقرة: 221. وثانيا اشكالية الطلاق: الزواج المختلط هو أكثر شيوعا في الطلاق.
والشرط الثاني في الكفاءة الصلاح: إن الصلاح والإستقامة وحسن الخلق من القيم الثابتة في دينا، ومن العوامل التي تحقق الطمأنينة داخل البيت الزوجية. قال تعالى: «الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ»النور: 26. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ» الترميذي. الشرط الثالث السلامة من العيوب كالجنون والأمراض المعدية. فمن كان به عيبا رجلا كان او امرأة ليس كفؤا للسليم من العيوب، وتثبت للسليم منهما الخيار في فسخ الزواج وابقائه. يلزم من الخاطب والمخطوبة الصدق والصراحة بما يعانيهما من العيوب النفسية والجسدية التي تؤثر سلبا على حياتهما الزوجية، فمن كتم شيئا من تلك العيوب يعتبر غاشا ومدلسا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا«» مسلم. الشرط الرابع في الكفاءة البلوغ، فلا يصح الزواج قبل سن البلوغ دفعا لما قد ينشأ عليه من مفاسد، لذا نجد كثير من الدول حتى الإسلامية منها تمنع الزواج قبل سن معين. شرع الله الزواج لمصالح عباده، ولتحقيق المقاصد الحسنة والغايات الشريفة، وليحفظ به استمرارية الجنس البشرية في هذا الكون. إن الزواج مسؤولية فينبغي للمقبل على الزواج أن يكون قد وصل إلى سن الرشد العقلي الذي يؤهله لتحمل مسؤولية الزواج ماديا ومعنويا. إن الزواج قبل سن الرشد غالبا ما يؤدي إلى فشل الحياة الزوجية او إلى عدم استقرارها.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
معشر الإخوة والأخوات:
إن حضور الولي هو الركن الثاني في الزواج. فلا يصح للمرأة أن تباشر عقد النكاح، لا نفسها ولا غيرها. قال تعالى: ﴿ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ﴾ النساء: 25، وفي حديث أبي دواود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ». لم يجعل الإسلام ولاية الولي مطلقة غير مقيدة بل اشترط الولي العدل الذي يحرص على مصلحة ابنته في اختيار الزوج المناسب سنا ودينا وخلقا. فهي ولاية نصيحة وتوجيه، وليست ولاية استغلال وتسلط.، لذلك إن الزواج لا يتم إلا بإرادة المرأة ورضاها، وليس للولي أن يجبرها على زواج من لا ترضاه، ولا يمنعها من زواج من ترضاه. قال تعالى: «فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَّنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ » البقرة: 232. وعن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنه قال: «أَنَّ جَارِيَةً، بِكْرًا أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَتْ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ فَخَيَّرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم» أبو دواد. إن الرجل أدرى بمكائد الرجال وخداهم، وهو أقدر بحماية بنته أو أخته حتى لا تسقط في فخ المظاهر البراقة والكلام المعسول والوعود الخادعة، فتلتهبها الذئاب المتوحشة، فتعيش حياة مضطربة مليئة بالهموم والغموم، فينعكس ذلك سلبا على صحتها وجمالها. وفي حالة تعسف الاب أو من يقوم مقامه في تزويج ابنته، فلها أن ترفع أمرها إلى القاضي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ. ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَالْمَهْرُ لَهَا بِمَا أَصَابَ مِنْهَا، فَإِنْ تَشَاجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ» أبو داود. الصداق هو الركن الثالث في الزواج. قال تعالى: «وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ۚ فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا» النساء: 4. ورد مسألة الصداق في مواضع مختلفة في القرآن، ومعنى التفصيلي للصداق في القرآن هو: أعطوا النساء مهورهن، عطية واجبة، وفريضة لازمة عن طيب نفس منكم. فإن طابت أنفسهن لكم عن شيء من المهر فوهَبْنه لكم فخذوه، وتصرَّفوا فيه، فهو حلال طيب. شرع الله الصداق عطية، ورمزا لتكريم المرأة وتمكينها من تجهيز نفسها وما تحتاجه في بيتها الزوجية من أثاث وغير ذلك. الإيجاب والقبول هو الركن الرابع في الزواج، وهو ما يفيد الرضا من الرجل والمرأة على الزواج، فلا يصح إجبار المرأة على نكاح مَن لا تريد، ولا الرجل على نكاح من لا يريد. إجبار الفتاة بالزواج جناية عليها، واستهانة بعواطفها، وله تأثير سلبي على حياتها الأسرية. عن عائشة رضي الله عنها قالت: «إنَّ فَتَاةً، دَخَلَتْ عَلَيْهَا فَقَالَتْ إِنَّ أَبِي زَوَّجَنِي ابْنَ أَخِيهِ لِيَرْفَعَ بِي خَسِيسَتَهُ وَأَنَا كَارِهَةٌ. قَالَتِ اجْلِسِي حَتَّى يَأْتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَتْهُ فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِيهَا فَدَعَاهُ فَجَعَلَ الأَمْرَ إِلَيْهَا فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَجَزْتُ مَا صَنَعَ أَبِي وَلَكِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَعْلَمَ أَلِلنِّسَاءِ مِنَ الأَمْرِ شَىْءٌ» النسائي. ومن شروط صحة الزواج الإشهاد والإعلان عن الزواج لتفادي العلاقات السرية في المجتمع، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا نِكاحَ إلا بوليٍّ وشاهدَيْ عدْلٍ» الطبراني. واظهار الزواج بوليمة أبلغ في اشتهاره المجتمع، وإخراجه من السرية الذي نهى الإسلام عنها. وردت في الحث على اشهار الزواج أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. منها قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف: «بَارَكَ اللَّهُ لَكَ أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ » البخاري، وقوله عليه الصلاة و السلام: «فَصْلُ مَا بَيْنَ الْحَرَامِ وَالْحَلاَلِ الدُّفُّ وَالصَّوْتُ» الترمذي. فإذا توفرت أركان الزواج وشروطه فقد تم العقد صحيحا. فأصبحا زوجين على كتاب الله تعالى وسنة نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم. يستحسن احترام الأعراف التي لا تتناقض مع مبادئ ديننا الحنيف، والعرف في الشريعة الإسلامية معتبر، فالقاعدة الشرعية تقول: المعروف عرفا كالمشروط شرطا. فيجب الإلتزام بما هو معروف في زماننا من تسجيل عقد الزواج في المؤسسات الرسمية محافظة على حق المرأة في النفقة، وحق الأولاد في النسب، وحقهم في الميراث بينهما.