مفهوم الزمن في القرآن الكريم

الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجَنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا  وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»

قال الله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا» الفرقان: 62. يركب كل إنسان قطار زمن يحدده عالم الشهادة، يركبه في محطة الولادة، ويغادره في لحظة الوفاة. وكذلك يتجول الإنسان أثناء نومه بعقله الباطن في أبعاد أخرى غير أبعاد عالم الشهادة. إنه لا يكون الإنسان أثناء نومه ميتا، ولكنه يكون غائبا بوعيه غير شاعر بجسمه، فهو يكون ميتا بالنسبة لعالم المحسوس، ولكنه حي في عالم الأرواح، حيث يسيح بأحلامه في عالم غير محدد بأبعاد العالم الشهادة. يسيح خيال الإنسان في الزمان والمكان أثناء نومه بدون حدود. قد يرى الإنسان في نومه بعض أحداث الماضي ماثلة أمامه بالرغم من أنها قد مضت عليها سنون، أو إنه قد يرى أحداثا لم تحدث بعد، وإذا بها تحدث في المستقبل. تؤكد هذه المقدمة أن بجانب عالم الماديات المحكوم ببعد الطول والعرض والإرتفاع يوجد عالم الروحانيات التي تحكمها الأبعاد الأخرى. ففي عام 1954 قدم العالم الفزيائي ايفيريت (Averett) نظرية بوجود أكوان موازية لكوننا. نؤمن نحن المسلمين بفضل الله عز وجل بعوالم غير عالم الإنسان. نؤمن بعالم الملائكة، والجن، والبرزخ، والآخرة. في القرآن الكريم إشارات إلى أن هناك أزمنة غير أزمانتنا، فعلى سبيل المثال قصة أهل الكهف الذين ناموا وظلوا فى نومهم ثلثمائة سنين وإزدادوا تسعا، وحين إستيقظوا ظنوا أنهم ناموا يوما أو بعض يوم. هل هذه السنين والأيام تعادل أعوامنا وأيامنا أم لهم معان أخرى؟ إن الروح قبس من نور الله تعالى لا تحكمه حواجز الزمان والمكان. يقول الله تعالى: « لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ 22» ق. يعتبر الإنسان بدلية الكون المحسوس هو أيضا بداية الزمان في الحياة الدنيا. والسؤال الذي يطرح: هل هناك زمن قبل هذا الزمان وهل هناك زمن بعده؟ قال ابن رشد رحمه الله تعالى: إن ظواهر بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة تؤكد وجود زمن قبل خلق هذا الكون المحسوس، كما يشير إلى ذلك  قول الله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۗ » هود: 7. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَىْءٍ، وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ» البخاري.

فالآية والحديث النبوي الشريف لا يخبران عن مدة زمن وجود العرش على الماء قبل خلق الكون، حيث أن معنى كان في الآية ليس فعل ماض، بل بمعنى الكينونة مؤكدا على الإزلية والدوام، كما وصف الله تعالى الفعل لنفسه في قوله تعالى:  «وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا»  النساء: 126. فإن الله تعالى كان وما زال بكل شيء محيطا. فالعرش في الآية والله أعلم ليس كرسيا مجسدا محدودا بالزمان والمكان، حيث أن الله سبحانه وتعالى قد أخضع مخلوقاته للزمان، ولكنه سبحانه تنزه عن جريان الأزمنة عليه، فكل شيء بالنسبة لعلمه قد حدث، فهو عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال. وفي زمن خلق السماوات والأرض يقول الله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» هود: 7. لقد شاع بين الناس أن ستة أيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض هي كأيامنا، وهذا مما تسرب من الإسرائيليات إلى تراثنا الإسلامي. قال بعض المفسرين أنها ستة أزمنة متساوية لا يعلم حقيقة مقدارها إلا الله سبحانه وتعالى، وخاصة أن هذه الأيام لم توصف بقوله تعالى: «مِّمَّا تَعُدُّونَ» كما في آيات أخر. ولقد رد سبحانه وتعالى في القرآن الكريم على من زعم أن الله عز وجل خلق المخلوقات في كل يوم من أيام الأسبوع، ثم استراح  بعد التعب الذي تلقاه في اليوم السابع، «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا» الإسراء: 43. قال تعالى: « وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ » ق: 38. قال الإمام القرطبي  قال ابن عباس: إن اليوم من الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض مقداره ألف سنة من سني الدنيا.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما  بعد:

معشر الإخوة والأخوات:

تأتي كلمة اليوم في القرآن الكريم بمعان مختلفة، المعنى الأول) اليوم الأرضي  وهو اليوم الذي تدور فيه الارض حول نفسها مرة كل 24 ساعة تقريباً من منظور الشمس، كقوله تعالى: «فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» البقرة: 184. وأحيانا يأتي اليوم في القرآن موصوفاً (مما تعدون) كقوله تعالى: « يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ 5» السجدة. الثاني) اليوم بمعنى النهار، كقوله تعالى: «سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا 7» الحاقة. الثالث) اليوم بمعنى الحين، كقوله تعالى: « وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا 15» مريم. الرابع) اليوم بمعنى طور أو مرحلة زمنية أو عصر من العصور.  الخامس) يوم زمن العروج هو الزمن الدال على السرعة العظمى التي تعرج فيه الملائكة إلى الله عز وجل، كقوله تعالى: «تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ 4» المعارج. السادس) اليوم عند الله سبحانه وتعالى يقدر بألف سنه من أيام الدنيا، وتقدير الزمن في أيام الله غيره في أيام البشر، كما في قوله تعالى :«وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» الحج: 47. قال ابن عباس ومجاهد: يعني من الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض، وقال عكرمة: يعني من أيام الآخرة.

المراجع:

الجامع لأحكام القرآن للإمام محمد بن أحمد القرطبي (المتوفى: 671هـ)

 الزمن بين العلم والقرآن للدكتور منصور محمد حسب النبي رحمه الله

مقالات ذات صله

تريد البقاء على اطلاع حول أحدث مقالاتي؟

اشترك هنا في النشرة الإخبارية الشهرية