عاقبة الكبر وفضيلة التواضع

الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا  وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله،«واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»

قال الله تبارك وتعالى:  تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ83 مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ القصص: 84. تأملوا معي هذه الآية الكريمة وما تحمله من معان وصفات، وأخلاق وسلوك. فمن الأهمية بمكان أن نسأل أنفسنا اين نحن من هذه الآية.  ان المؤمنين الذين لا يريدون الإستعلاء في الأرضِ، ولا يريدون بغيا ولافسادا، ولا يرتكبون المعاصي، ولا يعتدون على حقوق الناس، يَعدهم الله سبحانه وتعالى بالنعيم في الآخرة. إن التواضع زينة المؤمنين والمؤمنات، وسمت المهتدين والمهتديات، الذين يحبون الخير للناس، ويحسنون معاملتهم، ولا يُظهرون تَجبرا ولا تعنتا. ان الله عز وجل يؤكد في هذه الآية الكريمة على مسألتين أساسيتين في حياة الإنسان، الأولى هي مسألة التواضع والعدالة، فعلينا معشر المسلمين والمسلمات ان نلتزم التواضع والعدل في أسرنا وأقاربنا ومع كل من له الصلة بنا، بغض النظر عن دينه ولونه وجنسه، فهما معيار الإنضباط والإستقامة. قال تعالى:  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَالمائدة: 8. والمسألة الثانية التي يؤكد عليها الخالق سبحانه وتعالى ألا وهي الصلاح والإصلاح، صلاح السريرة، وسلامة القلب، وجلب المصالح ودرء المفاسد. فعلى كل مسلم الإقبال على نفسه فيغذيها بذكر الله تعالى، ويزودها بالعلم النافع، ويزكيها بالعمل الصالح، فيرتقي بنفسه روحيا وعلميا وخلقيا، ليكون لبنة صالحة، وعنصرا فاعلا في المجتمع، فبصلاح الفرد يصلح المجتمع. لقد تكررت عبارة العمل الصالح مئات المرات في القرآن الكريم. صرح القرآن مرارا وتكرارا بأن الله تعالى ضمن للصالحين والصالحات الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ النحل: 97.

 تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ هذه الآية الشريفة جاءت بعد الآيات التي تحدثت عن قارون، وما أصابه من الغرور، والاستعلاء على الناس، وعلى نبي الله موسى عليه السلام. قال تعالى:  إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ فقارون لم يقابل نعمة الله عليه بالشكر والإحسان الى المحتاجين، وانما قابل ذلك بالبغي على قومه، وبحرمان الضعفاء من حقهم في الضمان الإجتماعي، وربما استولى على اموال الضعفاء، وغصب حقوق الآخرين. وُجهت النصيحة الى قارون، بحيث لا يعتز بالمال، ولا يحتفل بالثراء، ولا يتعلق بالكنوز، وحثوه على الإلتزام بالمنهج الإلهي القويم الذي يجمع بين عمارة الأرض بالهدى والعدل، والعمل للآخرة في توافق وتناسق. إن دين الإسلام يزاوج بين شؤون المعاش، وشؤون المعاد مزاوجة متزنة، ويجمع بين صفاء التصور، ونقاء التصوف، ويوائم بين طبائع العمال وخصال العباد. إن المسلم الناجح ينهال من نصوص الكتاب، وفصوص الحكمة، ويهتدي بالسنن النبوية، والسنن الكونية، ويجمع بين إقامة الصلاة للخالق، وإدامة جسور الصِلات مع الخلق. قال الله تعالى حاكيا عن قارون:  إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ 76 وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ، وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا، وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ان المال هبة من الله واحسان منه، فلنقابل احسان الله إلينا بالإحسان الى خلقه. لكن تَكبُر قارون وطغيانه جعله يقول ردا على قومه حين نصحوه وأرشدوه إلى الخير:  قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي انما حصلت على هذا المال بجهدي الخاص، واستحققته بعلمي وشطارتي. اعماه الثراء التوقف على حقيقة وجوده، ونسي أن الله سبحانه وتعالى هو مسبب الأسباب. فلا غرابة من فعل قارون، فهذا هو حال كل من يغفل عن الله، ويبتعد عن منهج الله المتوازن المعتدل.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما  بعد:

بينت الآيات القرآنية العاقبة السيئة، والفاجعة الكبرى التي حلت بقارون وثروته، حيث خسف الله تعالى به الأرض، فذهت به وبكل ما لديه من أموال التي كانت سبب علوه وطغيانه، وخسر قارون بذلك الدنيا والآخرة. قال تعالى:  فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ، فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ، وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ القصص: 81. إن العاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة، يمنحها الله  تبارك اسمه وتعالى جده لعباده المتقين، الذين يرجون رحمته، ويطلبون واسع فضله وعفوه، السائرين على نهجه وطاعته، المؤدين واجباتهم تجاه ربهم وتجاه الناس. إن المسلم يجمع بين النقل والعقل، ويوائم بين التزود بأنواع الشعائر والحكم، كما يسعى المسلم إلى كسب رضا الخالق ورضا الخلق. «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللَّهُ ، وَأَحَبَّنِي النَّاسُ ، فَقَالَ : ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ» ابن ماجه. إن طريق الإيمان بالله تعالى هو السبيل الوحيد الذي يحررالإنسان من أسر قيود الخرافة، ويحقق له الأمن النفسي، والأمن الحسي.  قال الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ الأنعام: 82. فتزود أيها المسلم وأيتها المسلمة بما جاء به القرآن الكريم من خلق عظيم، و أدب حميد، وما يحمله من معاني الخير والجمال والنقاء و الصفاء. إن الله جواد كريم، يعطي الأجر الكثير على قليل من العمل متى تحقق الإخلاص لله تعالى في القول والعمل. قال تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ الأنعام 160

مقالات ذات صله

تريد البقاء على اطلاع حول أحدث مقالاتي؟

اشترك هنا في النشرة الإخبارية الشهرية