تعلم التعامل مع الأحزان

الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا  وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»

يكابد الإنسان صعاب الحياة، ويجاهد عناءها. تدركه الأحزان فيقهر، وتخطئه حينا فيفرح. لا يزال الإنسان يعيش أيامه بين أفراح وأتراح، وبين أحزان وانشراح. إن حياة الإنسان لم تخلق خالية من الهموم والأحزان، بل هي ممزوجة بحلاوة الأفراح، ومرارة الأحزان. يقول المولى عز وجل: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ» البلد: 4. يكابد الإنسان مرضه بالدواء، ووسواسه بذكر الله، وخوفه بالرجاء برحمة الله، وشكوكه بالثقة الله، وأحزانه باحتساب الثواب عند الله تعالى. فلا يستسلم المسلم لأنكاد الحياة، فتطغى عليه الأحزان. ويصنع بذلك مأساته تاركا البحث عن كفية التعامل مع الأحزان، ومنهج الله في معالجتها. إن الدنيا متقلبة الأحوال، قد يكون الإنسان اليوم صحيحا سليما، وفي الغد مريضا سقيما، وقد يكون اليوم مريضا سقيما وفي الغد صحيحا سليما. فحكمة الله في الخلق ماضية، وقضاؤه في الحياة سارية. فتقلبات الحياة لا تحكمها دائما القوانين العقلية، ولا التخمينات النظرية. فعلى المسلم أن يحمي نفسه من أوجاس الخوف فإنها قد تشكل جانبا خطيرا في شخصيته. حيث تتسلل منها أفكار تتوقع الشر، وخواطر تنبئ بالسوء، فتنهزم أمامها النفس، ويندثر معها التفاؤل، وتتلاشى بوجودها اشراقات الأمل، والثقة بالله. وكلما ازداد الخوف من توقع حدوث المكروه، ازداد الهم والغم والقلق.

معشر الإخوة والأخوات:

يُتعب كثير منا فكره في شيء لم يك بعد شيئا. كأننا لا نعلم أن أكثر ما يُخاف منه لا يكون، وأن قدرة الله في شؤون الخلق فوق إدراك العقول، ونظر العيون. يقتحم كثير منا ظلمات المستقبل بخياله، لا بواقعه، فيرى قادم أيامه بعين التشاؤم، لا بعين التفاؤل. فيكتب أقداره بالشكوك والظنون، ثم يصدقها، فتؤرق ليله، وتهد عافيته. فتضعف ثقته بالله، وتوكله عليه، وهكذا فيتصارع مع وساوسه، ويتجرع آلآمها وأكدارها، ويحرم لذة الطمأنينة، ونعمة الإستسلام لقضاء الله وقدره. يغيب عن ذهنه قول الله تعالى: «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ» الطلاق: 3. و قوله: « إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ. الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ. وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ. وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ. وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ» الشعراء: 77 – 81. سأل رجل حاتمًا الأصم فقال: «علام بنيت أمرك هذا في التوكل على الله ؟ قال: على خصال أربع: علمت أن رزقي لا يأكله غيري، فاطمأنت نفسي، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتينى بغتة فأنا أبادره، وعلمت أني لا أخلو من عين الله حيث كنت فأنا مستحي منه» حلية الأولياء وطبقات الأصفياء.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما  بعد:

معشر الإخوة والأخوات:

كما أن النعمة قد تكون في حقيقتها نقمة، فكذلك المصيبة قد تأتي نعمة، فمنها يتولد الصبر، ويُكتسب بها الأجر العظيم، ولذلك جعل الله بلاءه لأنبيائه وأصفيائه دليلا على محبته لهم. هذه الحقيقة يجب أن تستقر في قلب المؤمن المدرك لحقيقة الحياة، ومراد الله فيها من عباده. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاَءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ» الترمذي. يتبين لي من قراءة سيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه صلى الله عليه وسلم كان أعظم الناس مواساة للمبتلى، وادخال السرور عليه، وتطييب خاطره. بالمواساة تتضمد الجراح، وتخف الأحزان. تُوفر التعاطف مع الآخر في مشاعره الحزينة، وتفهم احباطاته الإطمئنان والسكينة. يوجهنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى منهج التعامل مع الأحزان، فيقول عليه الصلاة والسلام: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَلاَ تَعْجِزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَىْءٌ، فَلاَ تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا،‏ وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» مسلم. تساور المريض شكوكا واسعة تجاه نفسه وتجاه طبيبه. تراوده وساوس، فمرة يلوم نفسه، ومرة يقول لو أني فعلت كذا، أو لو أني ما فعلت ذلك، أو يلوم الآخرين على ما حصل، ونحملهم مسؤولية ما حدث، وهذا تفكير قاصر، يتناقض مع عقيدة الإسلام، والإيمان برب العالمين. يفضي هذا السلوك بصاحبه إلى التحسر وسوء الظن والضعف والهلاك. يُوجهنا النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي سلف ذكره إلى حسن الظن، والأخذ بالأسباب، والتسليم لمشيئة الله عز وجل، والقول قدر الله، وما شاء فعل، وان نجتنب اليأس. يقول الله عزوجل: «يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ » يوسف: 87.

مقالات ذات صله

تريد البقاء على اطلاع حول أحدث مقالاتي؟

اشترك هنا في النشرة الإخبارية الشهرية