النبي المبتلى أيوب عليه السلام

الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل له السمع والبصر والجنان سبحانه أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والطغيان. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا  وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

معشر الإخوة والأخوات: أصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، فهي أساس الفضائل، وحصن المحامد، «واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين»

يتقلب الإنسان في حياته بين الصحة والمرض، وبين السعادة والحزن، وبين الضحك والبكاء، وبين نجاح وفشل، وما حياة الإنسان إلا حالة وسط هذه التناقضات. فالحياة ليست على وتيرة واحدة، وأيام عمرنا ليست كبعضها البعض تماما ً، ما جعلنا الله عز وجل في الدنيا لنحزن إلى الأبد، ولا لنفرح إلى الأبد، ودوام الحال من المحال. فإن الإنسان لايستطيع أن يعلم الخير المكنون له في علم الغيب، فليثق بالله، فإن الثقة بالله انتصار، والصبر على البلاء ضياء. إن الإبتلاء ينقي النفس من التعلق بغير الله تعالى، ويربطها بخالقها. قال سيدنا إبراهيم عليه وسلم: «وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ» الشعراء: 80. فمن أصابه مرض فقصة نبي الله أيوب عليه السلام تكفيه مواساة. فإنه يضرب به المثل في الصبر والإحتساب، فهو عليه السلام سلوة لكل مبتلى، وقدوة لكل مكروب. ابتلي نبي الله أيوب عليه السلام بالضر الشديد في جسده وماله وولده، فصبر على ذلك صبرا جميلا، ولم ينقطع عن عبادة ربه وشكره، وكذلك زوجته التي قامت برعايته طيلة فترة مرضه. طال مرضه عليه السلام، ولزمه سنين عديدة، وكانت زوجته الوفية الحنينة تقوم بخدمته لا تفارقه صباحا ولا مساء، كانت تحنو عليه، وترعى له حقه. بعدما كانا اغنياء، أصبحا فقراء، لا يملكان ما يقتاتون به، فاضطرت للعمل عند الناس بالأجر، حتى تكسب ما تحضر له به الطعام.

اشتد البلاء على أيوب عليه السلام، وزاد شدته حين تطاولت سنين المرض، وتسلطت عليه الوساوس، وتنكر له الناس البعيد منهم والقريب، ولم يبق له صديق يزوه، ولا حميم يؤنه، إلا زوجته الوفية، ورجلان كانا من أخص الناس به. اشتد مقاطعة الناس لهما، حتى أن الناس كانوا لا يستخدمونها ولا يخالطونها خوفا من أن تنقل إليهم عدوى مرض أيوب عليه والسلام، فيصيبهم ما أصابه. يخبرنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ أَيُّوبَ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِثَ فِي بَلائِهِ ثَمَانَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَرَفَضَهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ إِلا رَجُلَيْنِ مِنْ إِخْوَانِهِ كَانَا مِنْ أَخَصِّ إِخْوَانِهِ ، كَانَا يَغْدُوَانِ إِلَيْهِ وَيَرُوحَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: تَعْلَمُ وَاللَّهِ لَقَدْ أَذْنَبَ أَيُّوبُ ذَنْبًا مَا أَذْنَبَهُ أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: مُنْذُ ثَمَانَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَرْحَمْهُ اللَّهُ، فَيَكْشِفُ مَا بِهِ» ابن حبان. ذات يوم زار الأخوان أيوب عليه السلام فلم يستطيعا الإقتراب منه من ريحه، فقال أحدهما لو علم الله من أيوب خيرا ما ابتلاه بهذا، فجزع أيوب عليه السلام من قولهما، فتوجه إلى ربه تبارك وتعالى، فناداه بهذه العبارات الصادقة، والمشاعرة الخاضعة: «أَنّى مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ» الأنبياء: 83.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما  بعد:

معشر الإخوة والأخوات:

  خر أيوب عليه السلام ساجدا لربه فقال، « اللَّهُمَّ بِعِزَّتِك لَا أَرْفَع رَأْسِي أَبَدًا حَتَّى تَكْشِف عَنِّي». فأوحى الله إليه: «ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ۖ هَٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ» ص: 42. ضرب أيوب عليه السلام الأرض برجله، فأنبع الله عينا باردة الماء، واغتسل فيها، وشرب منها كما أمره الله تعالى. «فَمَا رَفَعَ رَأْسه حَتَّى كُشفَ عَنْهُ» ابن كثير. فأذهب الله عنه ما كان به من الألم والمرض، وأبدله الله بعد ذلك صحة جسدية ونفسية، وجمالا تاما، ومالا كثيرا. رفع الله عنه المرض رحمة ورأفة منه سبحانه به، ثم تذكرة ومواساة لمن ابتلي في جسده أو نفسه. قال تعالى: « فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ ۖ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ» الأنبياء: 84. فما كان مرض أيوب عليه السلام من هوانه على ربه، وما كانت شدته إمعانا في إيذائه، بل لقد نال عليه السلام التكريم والتشريف من ربه تبارك وتعالى، وكشف عنه المرض، وأثنى عليه بقوله تعالى: «إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِّعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ» ص: 44. نتعلم قصة سيدنا أيوب عليه السلام أن بعد الإبتلاء يأتي الفرج، وبعد المرض يأتي الشفاء. ونقرأ في صحيح الإمام مسلم حديثا قدسيا حكيما في مغزاه، وعميقا في دلالاته. فلو استحضر المريض طوال رحلة مرضه معية الله، وأنسه الدائم بربه، يشغله ذلك الشعور عن أحاسيس الألم، وأعباء العلاج الطويل المدى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي‏.‏ قَالَ يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏.‏ قَالَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلاَنًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ » مسلم.

  • قصص الأنبياء للإمام الحافظ اسماعيل بن كثير الدمشقي
  • تفسير ابن كثير للإمام الحافظ اسماعيل بن كثير الدمشقي

مقالات ذات صله

تريد البقاء على اطلاع حول أحدث مقالاتي؟

اشترك هنا في النشرة الإخبارية الشهرية